يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة *** حديثك الشهد عند الذائق الفهم
73
حليت من عطل جيد البيان به *** في كل منتثر في حسن منتظم
74
بكل قول كريم أنت قائله *** تحي القلوب وتحي ميت الهمم
75
سرت بشائر بالهادي ومولده *** في الشرق والغرب مسرى النور في الظلم
76
تخطفت مهج الطاغين من عرب *** وطيرت أنفس الباغين من عجم
77
ريعت لها شرف الإيوان فانصدعت *** من صدمة الحق لا من صدمة القدم
78
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم *** إلا على صنم قد هام في صنم
79
والأرض مملوءة جورا مسخرة *** لكل طاغية في الخلق محتكم
80
مسيطر الفرس يبغي في رعيته *** وقيصر الروم من كبر أصم عم
81
يعذبان عباد الله في شبه *** ويذبحان كما ضحيت بالغنم
82
والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم *** كالليث بالبهم أو كالحوت بالبلم
83
أسرى بك الله ليلا إذ ملائكه *** والرسل في المسجد الأقصى على قدم
84
لما خطرت به التفوا بسيدهم *** كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
85
صلى وراءك منهم كل ذي خطر *** ومن يفز بحبيب الله يأتمم
86
جبت السماوات أو ما فوقهن بهم *** على منورة درية اللجم
87
ركوبة لك من عز ومن شرف *** لا في الجياد ولا في الأينق الرسم
88
مشيئة الخالق الباري وصنعته *** وقدرة الله فوق الشك والتهم
89
حتى بلغت سماء لا يطار لها *** على جناح ولا يسعى على قدم
90
وقيل كل نبي عند رتبته *** ويا محمد هذا العرش فاستلم
91
خططت للدين والدنيا علومهما *** يا قارئ اللوح بل يا لامس القلم
92
أحطت بينهما بالسر وانكشفت *** لك الخزائن من علم ومن حكم
93
وضاعف القرب ما قلدت من منن *** بلا عداد وما طوقت من نعم
94
سل عصبة الشرك حول الغار سائمة *** لولا مطاردة المختار لم تسم
95
هل أبصروا الأثر الوضاء أم سمعوا *** همس التسابيح والقرآن من أمم
96
وهل تمثل نسج العنكبوت لهم *** كالغاب والحائمات الزغب كالرخم
97
فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم *** كباطل من جلال الحق منهزم
98
لولا يد الله بالجارين ما سلما *** وعينه حول ركن الدين لم يقم
99
تواريا بجناح الله واستترا *** ومن يضم جناح الله لا يضم
100
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي *** وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
101
المادحون وأرباب الهوى تبع *** لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
102
مديحه فيك حب خالص وهوى *** وصادق الحب يملي صادق الكلم
103
الله يشهد أني لا أعارضه *** من ذا يعارض صوب العارض العرم
104
وإنما أنا بعض الغابطين ومن *** يغبط وليك لا يذمم ولا يلم
105
هذا مقام من الرحمن مقتبس *** ترمي مهابته سحبان بالبكم
106
البدر دونك في حسن وفي شرف *** والبحر دونك في خير وفي كرم
107
شم الجبال إذا طاولتها انخفضت *** والأنجم الزهر ما واسمتها تسم
108
والليث دونك بأسا عند وثبته *** إذا مشيت إلى شاكي السلاح كمي
109
تهفو إليك وإن أدميت حبتها *** في الحرب أفئدة الأبطال والبهم
110
محبة الله ألقاها وهيبته *** على ابن آمنة في كل مصطدم
111
كأن وجهك تحت النقع بدر دجى *** يضيء ملتثما أو غير ملتثم
112
بدر تطلع في بدر فغرته *** كغرة النصر تجلو داجي الظلم
113
ذكرت باليتم في القرآن تكرمة *** وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم
114
الله قسم بين الناس رزقهم *** وأنت خيرت في الأرزاق والقسم
115
إن قلت في الأمر «لا» أو قلت فيه «نعم» *** فخيرة الله في «لا» منك أو «نعم»
116
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له *** وأنت أحييت أجيالا من الزمم
117
والجهل موت فإن أوتيت معجزة *** فابعث من الجهل أو فابعث من الرجم
118
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا *** لقتل نفس ولا جاؤوا لسفك دم
119
جهل وتضليل أحلام وسفسطة *** فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
120
لما أتى لك عفوا كل ذي حسب *** تكفل السيف بالجهال والعمم
121
والشر إن تلقه بالخير ضقت به *** ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسم
122
سل المسيحية الغراء كم شربت *** بالصاب من شهوات الظالم الغلم
123
طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها *** في كل حين قتالا ساطع الحدم
124
لولا حماة لها هبوا لنصرتها *** بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم
125
لولا مكان لعيسى عند مرسله *** وحرمة وجبت للروح في القدم
126
لسمر البدن الطهر الشريف على *** لوحين لم يخش مؤذيه ولم يجم
127
جل المسيح وذاق الصلب شانئه *** إن العقاب بقدر الذنب والجرم
128
أخو النبي وروح الله في نزل *** فوق السماء ودون العرش محترم
129
علمتهم كل شيء يجهلون به *** حتى القتال وما فيه من الذمم
130
دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم *** والحرب أس نظام الكون والأمم
131
لولاه لم نر للدولات في زمن *** ما طال من عمد أو قر من دهم
132
تلك الشواهد تترى كل آونة *** في الأعصر الغر لا في الأعصر الدهم
133
بالأمس مالت عروش واعتلت سرر *** لولا القذائف لم تثلم ولم تصم
134
أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة *** ولم نعد سوى حالات منقصم
135
مهما دعيت إلى الهيجاء قمت لها *** ترمي بأسد ويرمي الله بالرجم
136
على لوائك منهم كل منتقم *** لله مستقتل في الله معتزم
137
مسبح للقاء الله مضطرم *** شوقا على سابخ كالبرق مضطرم
138
لو صادف الدهر يبغي نقلة فرمى *** بعزمه في رحال الدهر لم يرم
139
بيض مفاليل من فعل الحروب بهم *** من أسيف الله لا الهندية الخذم
140
كم في التراب إذا فتشت عن رجل *** من مات بالعهد أو من مات بالقسم
141
لولا مواهب في بعض الأنام لما *** تفاوت الناس في الأقدار والقيم
142
شريعة لك فجرت العقول بها *** عن زاخر بصنوف العلم ملتطم
143
يلوح حول سنا التوحيد جوهرها *** كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم
144
غراء حامت عليها أنفس ونهى *** ومن يجد سلسلا من حكمة يحم
145
نور السبيل يساس العالمون بها *** تكفلت بشباب الدهر والهرم
146
يجري الزمان وأحكام الزمان على *** حكم لها نافذ في الخلق مرتسم
147
لما اعتلت دولة الإسلام واتسعت *** مشت ممالكه في نورها التمم
148
وعلمت أمة بالقفر نازلة *** رعي القياصر بعد الشاء والنعم
149
كم شيد المصلحون العاملون بها *** في الشرق والغرب ملكا باذخ العظم
150
للعلم والعدل والتمدين ما عزموا *** من الأمور وما شدوا من الحزم
151
سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم *** وأنهلوا الناس من سلسالها الشبم
152
ساروا عليها هداة الناس فهي بهم *** إلى الفلاح طريق واضح العظم
153
لا يهدم الدهر ركنا شاد عدلهم *** وحائط البغي إن تلمسه ينهدم
154
نالوا السعادة في الدارين واجتمعوا *** على عميم من الرضوان مقتسم
155
دع عنك روما وآثينا وما حوتا *** كل اليواقيت في بغداد والتوم
156
وخل كسرى وإيوانا يدل به *** هوى على أثر النيران والأيم
157
واترك رعمسيس إن الملك مظهره *** في نهضة العدل لا في نهضة الهرم
158
دار الشرائع روما كلما ذكرت *** دار السلام لها ألقت يد السلم
159
ما ضارعتها بيانا عند ملتأم *** ولا حكتها قضاء عند مختصم
160
ولا احتوت في طراز من قياصرها *** على رشيد ومأمون ومعتصم
161
من الذين إذا سارت كتائبهم *** تصرفوا بحدود الأرض والتخم
162
ويجلسون إلى علم ومعرفة *** فلا يدانون في عقل ولا فهم
163
يطأطئ العلماء الهام إن نبسوا *** من هيبة العلم لا من هيبة الحكم
164
ويمطرون فما بالأرض من محل *** ولا بمن بات فوق الأرض من عدم
165
خلائف الله جلوا عن موازنة *** فلا تقيسن أملاك الورى بهم
166
من في البرية كالفاروق معدلة *** وكابن عبد العزيز الخاشع الحشم
167
وكالإمام إذا ما فض مزدحما *** بمدمع في مآقي القوم مزدحم
168
الزاخر العذب في علم وفي أدب *** والناصر الندب في حرب وفي سلم
169
أو كابن عفان والقرآن في يده *** يحنو عليه كما تحنو على الفطم
170
ويجمع الآي ترتيبا وينظمها *** عقدا بجيد الليالي غير منفصم
171
جرحان في كبد الإسلام ما التأما *** جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي
172
وما بلاء أبي بكر بمتهم *** بعد الجلائل في الأفعال والخدم
173
بالحزم والعزم حاط الدين في محن *** أضلت الحلم من كهل ومحتلم
174
وحدن بالراشد الفاروق عن رشد *** في الموت وهو يقين غير منبهم
175
يجادل القوم مستلا مهنده *** في أعظم الرسل قدرا كيف لم يدم
176
لا تعذلوه إذا طاف الذهول به *** مات الحبيب فضل الصب عن رغم
177
يا رب صل وسلم ما أردت على *** نزيل عرشك خير الرسل كلهم
178
محي الليالي صلاة لا يقطعها *** إلا بدمع من الإشفاق منسجم
179
مسبحا لك جنح الليل محتملا *** ضرا من السهد أو ضرا من الورم
180
رضية نفسه لا تشتكي سأما *** وما مع الحب إن أخلصت من سأم
181
وصل ربي على آل له نخب *** جعلت فيهم لواء البيت والحرم
182
بيض الوجوه ووجه الدهر ذو حلك *** شم الأنوف وأنف الحادثات حمى
183
وأهد خير صلاة منك أربعة *** في الصحب صحبتهم مرعية الحرم
184
الراكبين إذا نادى النبي بهم *** ما هال من جلل واشتد من عمم
185
الصابرين ونفس الأرض واجفة *** الضاحكين إلى الأخطار والقحم
186
يا رب هبت شعوب من منيتها *** واستيقظت أمم من رقدة العدم
187
سعد ونحس وملك أنت مالكه *** تديل من نعم فيه ومن نقم
188
رأى قضاؤك فينا رأي حكمته *** أكرم بوجهك من قاض ومنتقم
189
فالطف لأجل رسول العالمين بنا *** ولا تزد قومه خسفا ولا تسم
190
يا رب أحسنت بدء المسلمين به *** فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
كيف جدد شوقي في المدحة النبوية
- تحدث فيه عن الأخلاق
صلاحُ أمرِك للأخلاق مرِجعُه فقوم النفسَ بالأخلاقِ تستقِـــــمِ
- تحدث فيها عن الفقراء:
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى **** فالكل في حق الحياة سواء
فلو أن إنسانا تخير مـــلة ما اختار إلا دينك الفقراء
- تحدث فيها عن الشريعة:
غراء حامت عليها أنفس ونهى ومن يجد سلسلا من حكمة يحم
نور السبيل يساس العالمون بها تكفلت بشباب الدهر والهرم
- الشكوى من حال المسلمين وتأخرهم وتفكك الرابط بينهم
يا رب هبت شعوب من منيتها واستيقظت أمم من رقدة العـدم
رأى قضاؤك فينا رأى حكمته أكْرم بوجهك من قاضٍ ومنتقــم
فالطُف لأجل رسول العالمين بنا ولا تزد قومه خسفا ولا تسُـم
يا رب أحسنت بَدْءَ المسلمين به فتمِم الفضل وامنح حُسن مختتـم
شرح القصيدة
النسيب
ريم على القاع بين البان والعلم *** أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
- ريم : مخفف من الرئم وهو الظبي الخالص البياض – القاع : الأرض المستوية – البان : نوع من شجر البادية فروعه مستقيمة وورقه كورق الصفصاف سبط القوام تشبه به الحسان في الطول واللين والاعتدال – العلم : الجبل – السفك : الإراقة – الأشهر الحرم : أربعة متواليات دو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد مفرد وهو رجب يحرم فيها القتال في الجاهلية والإسلام
- صاحبته الجميلة البيضاء التي تشبه الظبي الخالص البياض تسكن في تلك الأرض المستوية بين شجر البان المستقيم الجميل وبين الجبل المرتفع قد قست في هجرها وفراقها فأهلكته وأحلت قتله في الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال
- ريم : استعارة تصريحية حيث استعار الريم للمرأة الجميلة – والبيت الأول فيه براعة استهلال ( حسن المطلع ) حيث جاء بألفاظ مستوحاة من البيئة الحجازية ( بيئة الرسول صلى الله عليه وسلم) مثل الرئم والبان والعلم والقاع فكانت الألفاظ تشعر بغرض الشاعر وهو مدح الرسول – ص- وفي البيت الأول تصريع حيث اتفقت حركة الروي بين شطري البيت (العلم ، الحرم)
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا *** يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
- رمى : ألقى وقذف – القضاء : الحكم – جؤذر : ولد البقر الوحشية تشبه به المرأة في اتساع عينيها – أدرك : أدركه أي لحق به – الأجم : شجر كثيف ملتف تسكن فيه الأسود
- إنها أصابته بسهام عينيها وهي امرأة ضعيفة وكأن عينيها سلاح فاتك في يد القضاء أصابته وهو فارس شجاع كالأسد فهو يدعوها ويستغيث بها أن تنصفه من نفسها وتحميه من سطوة استيلاء هواها عليه
- التشبيه لعينيها بعيني الجؤذر في الاتساع والجمال - والجؤذر والأسد : استعارتان تصريحيتان – يا ساكن القاع : كناية عن محبوبته – سكن الأجم : كناية عنه أي الشاعر
لما رنا حدثتني النفس قائلة *** يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
- رنا : نظر في سكون الطرف – يا ويح : كلمة ترحم – السهم : المراد نظرة الجؤذر فإنها كالسهم الذي أصابه وأصله عود من الخشب يسوى في طرفه نصل يرمى به عن القوس
- حين نظرت إليه بعينيها الجميلتين أحس أن سهما نافذا أصاب منه مقتلا فرثى لنفسه من إصابتها بهذا السهم القاتل
- تشبيه نظرتها بالسهم في الإصابة
جحدتها وكتمت السهم في كبدي *** جرح الأحبة عندي غير ذي ألم
- جحدتها : أنكرت الإصابة من السهم المصيب – الجرح : الشق في البدن – كتم : ستر وأخفى – الكبد : عضو في الجانب الأيمن من البطن تحت الحجاب الحاجز – الألم : الوجع
- لم يرفع صوته بالشكوى وطوى كبده على جرحها فهو لا يتألم لجرح الأحبة
- جعل الإصابة حقيقة فجعل يكتم السهم في كبده
يا لائمي في هواه والهوى قدر *** لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم
- لائمي : عاذلي أي من يوجه إلي اللوم والكلام القاسي – هواه : حبه – قدر : قضاء – شفك الوجد : أهزلك العشق – لم تعذل : لم تلم
- إلى من يوجه لي اللوم في حب الجؤذر لا بد لي من هذا الهوى فالحب قضاء الله ولو ذقت ألم العشق لعذرتني وكففت عن لومي كما قال المتنبي ( إنما يعذر العشاق من عشقا )
يا ناعس الطرف لا ذقت الهوى أبدا *** أسهرت مضناك في حفظ الهوى فنم
النعاس : فترة في الحواس يقرب معا النوم أو يقع – الطرف : العين – الذوق : اختبار الطعم وتجربته – أسهرت : السهر الأرق وعدم النوم كل الليل أو بعضه – مضناك : من أتعبته وأمرضته بالحب واستر به كلما ظن برؤه انتكس – حفظ : صيانة وحراسة
- يا ناعسة الطرف ( حيث تمدح المرأة بذلك ) أدعو لكي تنجي من ألم الحب وتكوني خالية البال مع أنك سلبت النوم من عيني
- بين أسهرت ، فنم طباق – ذقت الهوى : استعارة تصريحية
أفديك إلفا ولا آلو الخيال فدى *** أغراك بالبخل من أغراه بالكرم
- أفديك : استنقذك وأخلصك – الإلف : المألوف المحبوب المأنوس به والألفة خاصة تجاذب نفسي في المجال الشعوري تحدث بترابط الأفكار وتجاذب الميول النفسية – آلو : أقصر وأبطيء ولا آلة أي لا أقصر ولا أبطيء في الدعاء بأن أكون فداء له – أغراك : أي حبب إليك الشيء
- يفديه بنفسه ولا يتوانى عن التفدية لخيالها وطيفها الذي يزوره دائما لكرمه في الوقت الذي بخلت هي وضنت عليه بالزيارة
- وبين البخل والكرم : طباق – فداؤه للخيال استعارة مكنية
سرى فصادف جرحا داميا فأسا *** ورب فضل على العشاق للحلم سرى سار ليلا – صادف : تقابل على غير وعد – داميا : تلوث بالدم – أسا : داوى وعالج – الحلم : الرؤيا
- هذا الخيال زاره ليلا وقطع إليه المسافات البعيدة فداوى جرحه وكم للنوم من فضل على المحبين
- سرى الخيال : استعارة مكنية
التعليق على الأبيات
ابتداء القصائد بالغزل في العصور القديمة :
- تمكنت هذه العادة منهم حتى ابتدءوا قصائد الرثاء به فلم يجد كعب بن زهير ( رضي الله عنه ) حرجا في ابتداء قصيدته في مدح الرسول به حيث قال :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ مُتيَّمٌ إثرها لم يفد مكبولُ
وما سعاد غداةَ البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول
- تغزل بسعاد أمام الرسول في مسجده ولم ينكر عليه وعفا عنه
- عاب أبو نواس بدء القصائد بالغزل والوقوف على الأطلال ومنه قوله :
قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضرّ لو كان جلـس؟
اترك الربع وسلمى جانبا واصطبح كرخيّة مثل القبـس
صفة الطّلول بلاغة القـدم فاجعل صفاتك لابنة الكــرم
- وقد عاب المتنبي أيضا هذا التقليد
- ومع ذلك لم يمتنع الشعراء في عصرهما أو المتأخرين عنهما أن يخضعوا لهذا التقليد فمدح كعب وقلده البوصيري وتابع شوقي البوصيري فأثروا الثلاثة هذا الصنيع الجميل
عاب النقاد على الشاعر بدأه بالنسيب وعدوه منافيا لوحدة القصيدة التي يرونها لكل شاعر صادق
- ليس شوقي ملوما في ابتداء مدائحه بالنسيب فقدوته الصحابي الجليل كعب بن زهير
- شوقي فعل كالجاهليين الذين ابتدءوا قصائدهم بالغزل ليستميلوا الأسماع ويجذبوا القلوب لتتهيأ للغرض فالباعث ما زال موجودا فشعراؤنا محقون في ذلك لأنه ليس أقرب للنفوس من الحديث عن عواطفها وبخاصة عاطفة الحب أسمى العواطف .
- لماذا لجأ شوقي إلى ألفاظ وأخيلة ليست من بيئتنا :
- كان هدفه حسن الابتداء وبراعة الاستهلال فاختار ألفاظ في بداية القصيدة تناسب بيئة الممدوح صلى الله عليه وسلم لتبين غرضه من أول وهلة.
- وإن تجاوز حسن الابتداء وأكثر من الأخيلة التي لا تمت إلينا بصلة في مقدمة القصيدة كالريم والعلم والبان والجؤذر والأسد والقاع والأجم .
- ويشترط في الابتداء بالغزل
- أن تكون أخيلته من أجوائنا والصور المرسومة جزء من حياتنا فتشبيه المرأة بالظبي أو بالبدر قد انتهى
- واشتراط القدامى أن يكون الغزل عفا خالصا من التبذل والتكشف.
عاب العقاد ضيق أفق شوقي في الغزل . فماذا قال ؟ وبماذا ترد عليه ؟
- قال العقاد : يمكنك أن تتمثل العواطف التي يمثلها شوقي في شعره فتخرج بإنسان محدود جدا في الغزل وهو أقوى عاطفة إنسانية تجده عند شوقي تأليفا إذ لا يتصور وراء غزله شخصية حقيقة أو عاطفة حقيقية لأنه لو كان هناك عاطفة حقيقة لاختلف عزله في سن العشرين عنه في سن الثلاثين والأربعين وهكذا.
كذلك تختلف شخصية المحبوبة لاختلاف العاطفة ونظرة الشاعر إلى الحياة ولكنك واجد في شعر شوقي غزلا تقليديا كتحيات أهل البلد : أشرقت الأنوار . نهاركم سعيد
- والرد عليه : مع احترامنا لآراء المرحوم العقاد نأخذ على شعر شوقي بشيء كبير من الحظر والتحفظ
- فقد كان ثائرا على شوقي وعلى الشعر التقليدي بعامة فجاءت أحكامه متسمة بكثير من المغالاة والتعسف
- إن لشعر شوقي غزلا لا يقل روعة عن أجمل ما قيل من شعراء متقدمين أو معاصرين وإن كان في هذه القصيدة تقليديا لا أثر لتنوع العاطفة ولا دلالة على صدقها . ولذلك لا نستطيع أن نجرد شوقي من عاطفة الحب إذا ألمح إليها .
خداع الدنيا
يا نفس دنياك تخفى كل مبكية *** وإن بدا لك منها حسن مبتسم
- مبكية : موجعة مؤلمة – بدا : ظهر – مبتسم : مصدر ميمي من ابتسم أو اسم لمكان الابتسام وهو الثغر
- يخاطب نفسه وينبهها إلى حال الدنيا وأنها خادعة تظهر الود وتخفي العداوة تبدو ضاحكة وهي تضمر في لياليها وأيامها كل ما يبكي ويحزن
- يا نفس : استعارة مكنية – وبين تخفي كل مبكية ، وبدا لك منها حسن مبتسم مقابلة
لا تحفلي بجناها أو جنايتها *** الموت بالزهر مثل الموت بالفحم
لا تحفلي : لا تبالي – جناها : ثمرها – جنايتها : إساءتها – الفحم : يتخلف عن إحراق الخشب
- ينصح نفسه ألا تبالي بخير الدنيا أو شرها فقد يجيء الضرر من الخير والعكس فالزهر مع أنه تزين به الحجر وتتمتع به العين ونشم رائحته الطيبة مع ذلك فقد يفسد الهواء الذي يحتاجه الإنسان ليعيش فهو يستوي مع الفحم بدخانه الخانق فالخنق بكليهما ولا فرق
- تشبيه الموت بالزهر بالموت بالفحم والنهاية واحده هنا كما أن النهاية واحدة في حال الدنيا- جناها وجنايتها جناس ناقص
حساب النفس
يا ويلتاه لنفسي راعها ودها *** مسودة الصحف في مبيضة اللمم
يا ويلتاه : كلمة تحسر وإشفاق وأصل الويل الهلاك – راعها : أزعجها – دها : أصاب – مسودة الصحف : الأعمال السيئة – مبيضة اللمم : يريد بها الشيب واللمم جمع لمة وهو الشعر المجاور لشحمة الأذن
- يشفق الشاعر على نفسه وقد أزعجها ما تكشف لها من عكوفها على المعاصي حتى اسودت صحائفها في الكبر والشيب وهو الوقت الذي ينبغي أن تتوب فيه
- مسودة ومبيضة طباق
هامت على أثر اللذات تطلبها *** والنفس إن يدعها داعي الصبا تهم
- هامت :ذهبت غير ملتفة لشيء – على أثر : تقتفي علامة الشيء وأثره – اللذات : الشهوات والرغائب – تطلبها : تريدها – يدعها : يطلبها – داعي الصبا : المقصود اللهو والعبث – تهم : خرجت على غير هدى
- ولكنه مع الأسف ترك نفسه تطلب الشهوات في نهم وغرام بها فالخطأ خطؤه هو فإن النفس إذا خليت وشهواتها هامت بها وجرت ورائها وبالغت في طلبها
- يدعها داعي الصبا تهم استعارة
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه *** فقوم النفس بالأخلاق تستقم
الأمر : الحال والشأن – قوم النفس عدلها وأزل اعوجاجها .
الأخلاق هي التي تعصم من الأخطاء وبها الصلاح لكل أمر ومتى أقام الإنسان نفسه على حكم الأخلاق استقامت.
والنفس من خيرها في خير عافية *** والنفس من شرها في مرتع وخم
العافية : الصحة التامة – مرتع : اسم مكان من رتعت الماشية أي رعت – وخم : وبيء رديء
النفس تسعد بما تفعل من خير وتشقى بما تكسب من شر
مقابلة معنيين بمعنيين :
من خيرها في خير عافيةٍ ومن شرّها في مَرْتع وخــــم
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل *** في الله يجعلني في خير معتصم
جل : عظم – الغفران : العفو – أمل : رجاء – يجعلني : يصيرني – معتصم : اسم مكان أو مصدر ميمي يعني مستمسك من اعتصم بكذا أي استمسك به واعتصم بالله : أطاعه وامتنع عن معصيته
- عندما تكثر ذنوبه وتعظم بحيث تعتقد أنه لا غفران له فإنه يبعث السلوة إلى نفسه بما يؤمله من غفران لذنوبه عند الله وهذا ما يجعله آمنا من عذاب الله .
- جل ذنبي : كناية عن كثرة الذنوب
ألقى رجائي إذا عز المجير على *** مفرج الكرب في الدارين والغمم
ألقي : أطرح – رجائي : أملي – عز المجير : صعب الحصول على من يجير من العذاب والمجير هو الحامي والمنقذ – على مفرج الكرب : كاشف الحزن والغم يقصد الرسول سامحه الله – في الدارين : في الدنيا والآخرة – الغمم : جمع غمة وهي الكرب والحزن
- يلقي رجاءه على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان رحمة في الدنيا وسيكون رحمة لهم في الآخرة فهو يكشف عنهم الكروب في الدنيا والآخرة
التعليق على الأبيات
ضمن شوقي في مقدمته ثلاث فنون وهي : النسيب ، صف الدنيا ، حساب النفس ...هل كان موفقا في وصل النسيب بوصف الدنيا ؟ أو وفق في التخلص من وصف الدنيا لحساب النفس ؟ وهل أحسن التخلص إلى جملة الغرض ؟
- لم يكن دقيقا في وصل النسيب بوصف الدنيا ولكنه مهد في أخريات الفن الأول للفن الثاني فإنه ذكر أنه وجد في خيمة صاحبته المنى والمنايا فيشير إلى أن الدنيا تجمع بين المضحكات والمبكيات فتخفي الثانية وتظهر الأولى حيث قال :
ما كنت أعلم حتى عن مسكنه *** أن المنى والمنايا مضرب الخيم
- نعم أحسن التخلص من وصف الدنيا لحساب النفس ففي نهاية الفن الثاني ذكر أن الدنيا كثيرا ما ضللته وأن من حجبت بصيرته يقدم على ما يضره فقال :
كم ضللتك ومن تحجب بصيرته *** إن يلق صابا يرد أو علقما يسم
فكان مناسبا أن يقول في بداية الفن الثاني :
يا ويلتاه لنفسي راعها ودها *** مسودة الصحف في مبيضة اللمم
وأحسن التخلص إلى جملة الغرض حيث قال في البيتين الآخرين من المقطوعة
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل *** في الله يجعلني في خير معتصم
ألقى رجائي إذا عز المجير على *** مفرج الكرب في الدارين والغمم
- عاب النقاد على شوقي في عدم اقتصاره على النسيب في افتتاح قصيدته بل أضاف فنيين آخرين . وضح ذلك .
لم يقتصر شوقي على النسيب ولكنه أضاف إليه وصف الدنيا وحساب النفس ولكن المنصف يبرئ شوقي من هذه العيب لأن كل ما ذكره في الغرضين يتفق مع الغرض الأصلي وهو مدح الرسول –ص- فالتحذير من الاغترار بالدنيا والدعوة إلى تهذيب النفس وحسابها على ما اقترفت وأن الأخلاق هي المرجع الأول في صلاح الأمور والنفس تعيش مع الخير في طمأنينة وسعادة ومع الشر في نكد وكدر . هذه المعاني يمهد بها الشاعر للجو النفسي الذي ينبغي أن تسمع فيه مدحة للرسول (ص)
لزمت باب أمير الأنبياء ومن *** يمسك بمفتاح باب الله يغتنم
علقت من مدحه حبلا أعز به *** في يوم لا عز بالأنساب واللحم
محمد صفوة الباري ورحمته *** وبغية الله من خلق ومن نسم
قد أخطأ النجم ما نالت أبوته *** من سؤدد باذخ في مظهر سنم
نموا إليه فزادوا في الورى شرفا *** ورب أصل لفرع في الفخار نمي
لزمت : داومت الوقوف أمامه – أمير الأنبياء : محمد (ص) وهو مفتاح باب الله – يغتنم : يظفر بالغنيمة – علقت : أمسكت - أعز به : أتقوى به – الأنساب : القرابة من الآباء خاصة – اللحم : القرابة – اليوم : المقصود يوم القيامة – صفوة : الصفوة هم الأخيار - الباري : اسم من أسماء الله وأصله البارئ – البغية ما يبتغى ويطلب – النسم جمع نسمة وهي الإنسان – السؤدد : السيادة – الباذخ والسنم : المرتفع – نموا : نسبوا
- وقف الشاعر بباب الرسول –ص- وأطال الوقوف والرجاء الدائم عسى أن يظفر بالنور وبشفاعة النبي –ص-
- وقد اتخذ من مدح الرسول وسيلة لنيل العز يوم القيامة يوم لا تنفع قرابة ولا نسب وكأنه استفاد ذلك من قوله تعالى (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه...)
- فالنبي –ص- اختاره الله من خلقه لأداء رسالة الحق وهو رحمته المسداة إلى عباده .
- وقد علا نسبه الشريف وهو الكريم في نفسه وفي نسبه حتى كانت النجوم مع ارتفاعها في السماء دون نسبه رفعة وبلغ آباؤه من المجد ما لا غاية ورائه.
- وقد زاد بني هاشم أنهم انتسبوا إلى الرسول وكم من أب علا بابن مدارج الشرف وهذا المعنى الغريب فقط في هذه المقطوعة مأخوذ من قول ابن الرومي في أبي الصقر :
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكن منه شيبان
وكم من أب قد علا بابن ذرا شرف كم علت برسول الله عدنان
- وإذا كان لابن الرومي فضل السبق فلشوقي فضل الإيجاز فقد نظم معنى البيتين في بيت واحد
نموا إليه فزادوا في الورى شرفا *** ورب أصل لفرع في الفخار نمي
وله فضل آخر وهو زيادة المعنى فإنه أشار إلى شرف آباء الرسول فهم شرفاء في أنفسهم ثم زاد نسبتهم إلى رسول الله شرفا وقد خلا بيتا ابن الرومي من ذلك حتى فهم منهما أن شيبان – مع أنها قبيلة عظيمة – قد استمدت شرفها من الصقر هذا .
البعثة وحال قريش
سائل حراء وروح القدس هل علما *** مصون سر عن الإدراك منكتم
كم جيئة وذهاب شرفت بهما *** بطحاء مكة في الإصباح والغسم
نودي اقرأ تعالى الله قائلها *** لم تتصل قبل من قيلت له بفم
هناك أذن للرحمن فامتلأت *** أسماع مكة من قدسية النغم
فلا تسل عن قريش كيف حيرتها *** وكيف نفرتها في السهل والعلم
تساءلوا عن عظيم قد ألم بهم *** رمى المشايخ والولدان باللمم
حراء : جبل في الطرق الشرقي من مكة في طريق الذهاب إلى منى وعرفات وكان به الغار الذي كان يتعبد فيه الرسول (ص) قبل البعث وفيه نزل عليه القرآن – روح القدس جبريل عليه السلام – مصون : محفوظ ومصون – سر : يريد الرسالة – بطحاء مكة : ميل واسع بين جبل مكة وكانت تنزل فيه أكثر القبائل وأعزها ولذلك سموا قريش بالبطاح – الغسم : اختلاط الظلمة ، وغسم الليل وأغسم أي أظلم _- تعالى ترفع وتنزه – أذن للرحمن : دعا إليه – قدسية النغم : مطهرة النغم – نفرتها نفورها – السهل : المنبسط من الأرض – العلم : الجبل – ألم بهم : نزل بهم – اللمم : الجنون .
- انتقل الشاعر إلى صور من حياة الرسول فابتدأ بالصورة التي تتصل برسالته ذلك أن الرسول كان يتحنث قبل البعثة في غار حراء الليالي ذوات العدد فالشاعر يشير إلى هذه الحقبة من حياة الرسول ويعجب هل كان هذا الغار وهل كان جبريل – وهو مقرب من الله تعالى- يعلمان ما يضمره الغيب للرسول من اصطفائه للرسول من اصطفائه للرسالة
- سائل حراء : استعارة
• وكم كان الرسول يتنقل في وديان مكة ذاهبا للغار أو راجعا منه في الصباح والمساء وكان هذا شرفا لهذه الأماكن التي وطئتها قدمه عليه الصلاة والسلام .
• وقد ظل كذلك حتى هبط عليه الوحي بالرسالة وناداه اقرأ وهي كلمة علوية كان هو أول من سمها
• فلما بشر بالرسالة دعا إلى الله فشاعت كلماته العذبة المطهرة في جميع أرجاء مكة .
• وهنا اضطربت قريش وأخت الحيرة والدهشة منها كل مأخذ ثم تأبت ونفرت من هذا الصوت الجميل العذب فامتلأت أسماع مكة وفيها استعارة مكنية
• وأخذ القرشيون يتساءلون فيما بينهم عن النبأ العظيم وعن الخطب الجلل الذي حل بهم فأفقدهم صوابهم شيبهم وشبابهم .
جهل قريش ومعجزة الرسول
يا جاهلين على الهادي ودعوته *** هل تجهلون مكان الصادق العلم
لقبتموه أمين القوم في صغر *** وما الأمين على قول بمتهم
جاء النبيون بالآيات فانصرمت *** وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كلما طال المدى جدد *** يزينهن جلال العتق والقدم
يكاد في لفظة منه مشرفة *** يوصيك بالحق والتقوى وبالرحم
الجهل الأول : بمعنى الاعتداء – الجهل الثاني : عدم العلم – الهادي الأصل أنه من أسماء الله الحسنى – مكان: منزلة – العلم : المشهور أو الجبل – لقبتموه : اللقب علم التشريف – الأمين : المأمون – بمتهم بمشكوك في صدقه – الآيات في الأصل العلامات المراد هنا معجزات الأنبياء – انصرمت : انقطعت أي انتهت ولم تخلد – حكيم : المراد به القرآن – المدى : هو في الأصل الغاية والمراد هنا الزمن – جدد:جمع جديد – العتق : الجمال والشرف وكرم الأصل – لفظة : كلمة جامعة – الرحم : القرابة
• يلتفت الشاعر إلى قريش الذين أصابتهم دعوة الرسول بالذهول والطيش وحملتهم على أن يسيئوا معاملته فيحجبهم بما كان معروفا به عنهم من صدق وأنهم لا يجهلون مكانته في قومه وهو الصادق والمشهور بهذ الوصف
• وقد كانوا يلقبونه بالأمين قبل البعثة وإذا كان أمينا فيما يستودع من ودائع فكيف يتهم فيما يبلغه عن ربه. إن المنطق يحتم أن من كان صادقا في هذا المدى الطويل من عمره وفي مثل هذه البيئة الجاهلية لا يمكن أن يدعو زورا أو يصطنع كذبا .
• ثم يصف القرآن الكريم بأنه معجزة خالة في حين كانت معجزات الأنبياء السابقين مرهونة بأوقاتها
• وبأن آياته لا تمل على كثرة الرد بل كلما كررها القارئ وطال عليها الزمن بدت جديدة مع ما يزينها من كرم معدنها ومن عمرها المديد في أعماق الزمن .
• ويصفه بالإيجاز الرائع حتى لتكاد اللفظة الواحدة منه تتضمن من المعاني الكثيرة أروعها وأفخمها وأنبلها
وقد نقل شوقي هذه المعاني من البوصيري الذي قال في وصف القرآن:
آيات حق من الرحمن محدثة = قديمة صفة الموصوف بالقدم
دامت لدينا ففاقت كل معجزة = من النبّيين إذ جاءت ولم تدم
فما تعد ولا تحصى عجائبها = ولا تسام على الإكثار بالسأم
وإذا وضعنا أبيات شوقي في وصف القرآن أمام أبيات البوصيري رأينا :
1. أن البوصيري نص على أن معجزة الرسول فاقت كل معجزات الأنبياء في حين لم يصرح شوقي بذلك
2. أن شوقي تبع البوصيري في القول بأن القرآن معجزة باقية خالدة فقال البوصيري ( دامت لدينا ... ) وعبر شوقي بقوله ( غير منصرم .... ) وعبارة شوقي أجود وأدق فقد حكم على القرآن بأنه لا ينقطع في حين اكتفى البوصيري بأن القرآن ( دام لدينا) وهو تعبير قاصر ضعيف
3. اشترك الشاعران في القرآن آياته ذات رونق ثابت وبهاء متجدد عبر البوصيري عن ذلك بأن عجائب القرآن تسأم منها مهما كررت القراءة والترداد لها وعبر شوقي بأنها جديدة مهما طال عليها الأمد وكلاهما أخذ المعني م قول النبي – ص - : ( لا يخلق على كثرة الرد ) .
غير أن البوصيري عبر عن ذلك تعبيرا مباشرا في حين عبر شوقي بمعنى آخر وهو تجدده على طول الزمن وقد أضعف البوصيري عبارته بما تكلفه فيها من جناس فجاءت عبارة شوقي أصفى وأجمل وأجزل.
قبل البعثة
سرت بشائر بالهادي ومولده *** في الشرق والغرب مسرى النور في الظلم
تخطفت مهج الطاغين من عرب *** وطيرت أنفس الباغين من عجم
ريعت لها شرف الإيوان فانصدعت *** من صدمة الحق لا من صدمة القدم
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم *** إلا على صنم قد هام في صنم
والأرض مملوءة جورا مسخرة *** لكل طاغية في الخلق محتكم
بشائر : الأخبار السارة – تخطفت : أخذت أخذا قويا – مهج : جمع مهجه وهي الدم أو دم القلب أو الروح – الطاغين : جمع طاغية وهو المسرف في الظلم – الباغين : جمع المستطيل – ريعت : ذعرت وفزعت – شرف : جمع شرفة وهي المكان البارز من البيت – القدم : جمع قدوم وهو آله للنجر – فوضى : لا نظام لهم ولا استقرار لأمورهم – لا تلم : لا تنزل به – صنم : الأول للضال من الناس عن الحق والثاني هو الوثن الذي يعبد من دون الله – جورا : ظلما – محتكم : مستبد .
o يتحدث شوقي عن الفرحة التي عمت العالم شرقه وغربه بمولد النبي – ص – وقد كانت بشائر مولده وسط ضلالات الجاهلية المستحكمة أشبه بالأنوار تسري في رفق وسهولة بين الظلمات فتبددها
- الشرق والغرب ، والنور والظلم : طباقان
o ولكنها كانت وبالا على الظالمين سواء من العرب أو من العجم فقد ارتاعت لها قلوبهم وانصدعت منها نفوسهم
- عرب وعجم : جناس ناقص ، وطباق
o وقد كان من إرهاصات النبوة ما حدث لإيوان كسرى فقد تصدعت شرفاته يوم ميلاد النبي –ص- وهي لم تصدع بآلات حسية عملت على هدمها وإنما تصدعت بما أحسته من قرب ظهور الحق على الأرض .. اقتصر شوقي في الحديث عن الإرهاصات التي صحبت ميلاد الرسول على ما حدث لإيوان كسرى والتاريخ والمدائح النبوية تذكر إرهاصات أخرى منها خمود نار فارس وذهاب الماء من بحيرة ساوة
- ريعت لها شرف الإيوان : استعارة مكنية
o وعندما بعث النبي كان الناس غارقين في الضلال والظلام لا حاكم يرجعون إليه ولا قانون يحفظ لذوي الحق حقوقهم وما الناس إلا ضال أبله يهيم في حجر أصم يتخذه إلها من دون الله
– صنم وصنم : جناس
o وليس للضعفاء من يحميهم أو يأخذ لهم حقوقهم فالسلطان والغلبة للقوي المستبد والمهانة والتسخير للضعيف
- والأرض مملوءة جورا : استعارة
امتازت هذه المقطوعة بالقوة في الأداء والألفاظ الجزلة والعبارات الفخمة والصور البيانية الجميلة والمحسنات البديعية كل هذه الألوان أضفت على الأبيات مسحة من الجمال أشاعت فيها الموسيقى العذبة
الهجرة
سل عصبة الشرك حول الغار سائمة *** لولا مطاردة المختار لم تحم
هل أبصروا الأثر الوضاء أم سمعوا *** همس التسابيح والقرآن من أمم
وهل تمثل نسج العنكبوت لهم *** كالغاب والحائمات الزغب كالرخم
فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم *** كباطل من جلال الحق منهزم
لولا يد الله بالجارين ما سلما *** وعينه حول ركن الدين لم يقم
تواريا بجناح الله واستترا *** ومن يضم جناح الله لا يضم
العصبة من الرجال: ما بين العشرة إلى الأربعين – الغار : غار ثور وهو الذي اختفى فيه النبي الهجرة – مطاردة : حملوا عليه وجدوا في طلبه – الأثر : بقية الشيء – الوضاء : الحسن والمراد أثر أقدام النبي وهو ذاهب للغار – أمم : قريب – الغاب : الشجر الكثير الملتف – الحائمات الزغب : الحمائم الصغار والزغب لين وصغيره – الهمس : الكلام الخفي – الرخم : طائر معروف ضخم الجثة فأدبروا : ولوا – جلال : عظمة - الجارين محمد –ص- وأبو بكر رضي الله عنه – تواريا : استظلا – لا يضم : لا يذل
• حين لجأ النبي – ص – على غار ثور تتبع مشركو مكة أثره – ومعهم الخبراء باقتفاء الأثر – وما زالوا يسيرون حتى انتهوا إلى الغار وهنا تجلت عناية الله الكبرى برسوله- ص – وصحبه فلو أن احد المشركين نظر تحت قدميه لرآهما وما كانوا يدورون إلا لغرض اقتفاء أثر الرسول للنيل منه
- حائمة ، ولم تحم : طباق السلب
• ويعجب الشاعر من هؤلاء المطاردين للرسالة هل أبصروا أثر الرسول – ص – المشرق على الطريق أم سمعوه وهو يهمس خافتا مسبحا قارئا وما الذي حجب عنهم رؤية الرسول – ص – وكانت في أيسر مقدورهم وماذا هالهم حتى عميت أبصارهم وفي البيت استفهام مجازي
• هل خيل لهم نسج العنكبوت ذلك النسج الضعيف الواهي بغاب ذو شجر كثيف لا يمكن اقتحامه ؟ أو خيل لهم أن الحمام الصغير الذي ابتنى عشه على فم الغار رخم جارح فخافوها ؟
- فشبه نسج العنكبوت بالغاب والحائمات الزغب بالرخم
• وقد لحقت بهم الخيبة والخزي هؤلاء المشركين فرجعوا حيارى ضالين لم يظفروا ببغيتهم وكأنما كانت كل بقعة من الأرض تلعنهم وتسفه أحلامهم
- شبههم في إدبارهم بالباطل المنهزم من جلال الحق
• وقد كان كشف المهاجرين العظيمين ميسورا لهم لولا أن الله أحاطهما بعنايته ومنعتهما بقدرته ونصره كما كان القضاء على الإسلام في متناول أيدي المشركين لولا أن الله جلت قدرته حفظه ورعاه وكيف لبشر أن يصل إلى من يبسط الله عليه جناحه ؟
- ومن يضم جناح الله لا يضم، وتواريا بجناح الله : استعارة مكنية
- ويد اله ، وعين اله مجازان مرسلان
فخره بالتسمية ودفاعه عن غزوات الرسول
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي *** وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا *** لقتل نفس ولا جاؤوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة *** فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لما أتى لك عفوا كل ذي حسب *** تكفل السيف بالجهال والعمم
والشر إن تلقه بالخير ضقت به *** ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسم
- يتسامى : يتعالى - - سمي : اسمه موافق لاسم الرسول – ص – سفك الدم: إراقته – الأحلام : العقول – السفسطة : التمويه والمخادعة بالقول – عفوا : دون مجهود – العمم : عامة الناس – ضقت به ذرعا : لم تستطع تحمله – ينحسم : ينقطع من أصله
يفخر شوقي لموافقة اسمه اسم الرسول – ص – وهو (أحمد) ويستبعد ألا يتعاظم من وافق اسمه اسم الرسول - ص -
ثم يتناول موضوع غزوات الرسول فيذكر أن الجاهليين والمضللين يعيبون على الإسلام في هذه الغزوات وحجتهم أن الرسل جاءوا هداة مرسلين ورفقاء مسالمين ولم يبعثوا ليقتلوا الناس أو يريقوا دماءهم .
فصنيع الرسول لا غبار عليه فقد دعا إلى التوحيد وترك الضلالات والأوهام بالحجة والكلمة الرقيقة فلما أعياه أمر بعضهم كشف العماية عنهم بالسيف والقتال
وعذر الإسلام في ذلك واضح ففي بعض الأحايين لا يحسم الشر إلا بالشر ويعجز اللين عن إقناع الطغاة المستبدين والجهلة الغافلين ومادام الرفق لم ينجح في استئصال الشر فلا مندوحة من الشدة والقوة .
- لم يلتزم شوقي بالترتيب التاريخي للأحداث فقد تحدث بعد المقدمة عن نسب الرسول – ص – وعن اختفائه في الغار وعن بعض معجزاته الحسية وعن بدأ الوحي والقرآن وعن فصاحة النبي – ص – ثم انتقل في الحديث عن ميلاده وإرهاصات ذلك الميلاد ثم الحديث عن الإسراء والمعراج ثم عن الهجرة واختم بالاحتجاج لحروب النبي – ص –
- قول شوقي :
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي *** وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
يشبه قول البوصيري :
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم
كما يشبه قول البارودي :
أم كيف يخذلني من بعد تسميتي باسم له في سماء العرش محترم
- وقد فضل الأمير شكيب أرسلان بيت شوقي على بيت البوصيري . وعندي أن بيت البوصيري أقوى معنى وأجمل أسلوبا وأسلس تعبيرا فإن البوصيري جعل من تسميته محمدا عهدا عند الرسول والرسول أوفى الخلق بالعهود وهو بمأمن بسبب هذه التسمية من كل ما يخاف منه الخائفون ويطمع لهذا السبب في أن يشفع له الرسول – ص –
- أما شوقي فاكتفى بالجاه والتعالي على الناس باشتراكه مع الرسول في الاسم وتعبيره (تسميتي – يتسامى – سمي ) فيه تكلف ذهب برونق البيت .
- أما بيت البارودي ففيه استفهام القصد منه استبعاد أن يخذله الرسول بعد تسميته باسمه ومع أن الاستفهام على هذا معبر وذو إيحاء مشعر بأن الشاعر شديد الرجاء في شفاعة الرسول بسبب اتفاقهما في الاسم ومع هذا كان معناه أضعف من معنى البوصيري ومن معنى شوقي ثم إن كلمة ( محترم ) كلمة بعيدة عن جو الشعر الجيد .
الصلاة على الرسول والنخبة الكرام
يا رب صل وسلم ما أردت على *** نزيل عرشك خير الرسل كلهم
محي الليالي صلاة لا يقطعها *** إلا بدمع من الإشفاق منسجم
مسبحا لك جنح الليل محتملا *** ضرا من السهد أو ضرا من الورم
رضية نفسه لا تشتكي سأما *** وما مع الحب إن أخلصت من سأم
وصل ربي على آل له نخب *** جعلت فيهم لواء البيت والحرم
وأهد خير صلاة منك أربعة *** في الصحب صحبتهم مرعية الحرم
- نزيل عرشك : يشير إلى ما كان ليلة المعراج من صعود النبي – ص – إلى مكان لم يصل إليه أحد من قبل – الإشفاق : الخوف – منسجم : غزير – جنح الليل : طرفه – السهد : السهر والأرق – الورم : انتفاخ العضو – السأم : الملل – نخب : المختارون والصفوة
- طلب الشاعر من الله الصلاة والتسليم على محمد خير رسله الذي اختصه بالصعود إلى حضرته العلية . هذا الرسول الذي أحيا لياليه بالعبادة والبكاء خوفا من الله ، ودأب على تسبيح الله وتمجيده لا يبالي ما يلقاه من تعب وسقم في سبيل ذلك ، وراضيا بذلك لا يشكو مللا ، وكيف يشكو وهو محب مخلص .
كما طلب شوقي من ربه أن يصلي على آل الرسول ، الذين خصهم من قديم بخدمة بيته ، وقد كانوا أشرافا أعزة ، لا يعبسون مهما أظلم وجه الدهر ولا يخفضون رؤوسهم مهما اشتدت الأحداث وتتابعت الخطوب ، وأن يصلي على أصحابه الأربعة ، أولئك الذين لا تنكر صحبتهم وهم الخلفاء الراشدون .
الشكوى من أحوال المسلمين
يا رب هبت شعوب من منيتها *** واستيقظت أمم من رقدة العدم
سعد ونحس وملك أنت مالكه *** تديل من نعم فيه ومن نقم
رأى قضاؤك فينا رأي حكمته *** أكرم بوجهك من قاض ومنتقم
فالطف لأجل رسول العالمين بنا *** ولا تزد قومه خسفا ولا تسم
يا رب أحسنت بدء المسلمين به *** فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
هبت : تبهت – تديل : تغير من حال إلى حال – خسفا : إهلاكا أو ذلا – تسم: يقال سامه العذاب إذا أوقعه به
واتجه شوقي إلى ربه بالشكوى مما أصاب المسلمين من تخلف وتأخر ، ففي الوقت الذي تقدمت فيه شعوب كثيرة بعد تخلفها ونهضت بعد كبوتها كان حال المسلمين على العكس ، فقد تأخروا بعد تقدمهم وكبوا بعد نهوض
ويسأل الله سبحانه أن يلطف بالمسلمين لأجل رسوله الكريم ، وألا يؤاخذهم بما يفعلون ، فينزل بهم الخسف بعد الخسف ، ثم ينهي قصيدته بأن يسأل ربه الذي أحسن بدء المسلمين بمحمد رسوله الكريم أن يتم فضله عليهم ، ويمنحهم خاتمة سعيدة.
س - ما معنى المعارضة ؟ ومن الذي عارضه شوقي ؟ وبماذا يدل قوله : " والله يعلم أني لا أعارضه ؟
المعارضة : هي أن ينظم شاعر قصيدة على مثال قصيدة أخرى في غرضها ووزنها وقافيتها وموضوعها، وعارض شوقي في هذه القصيدة البوصيري .. وقال قولته هذه وهو يقدم شرح نهج البردة للشيخ البشري وذلك إكبار منه للبوصيري وتواضع من شوقي فهو ينفي عن نفسه القدرة على معارضة هذا الإمام .
س- رأى أحد نقادنا المعاصرين أن المعارضة ليست من الفن الصحيح في شيء بل هي محض صناعة فماذا قال ؟ وهل صح هذا الرأي على معارضة شوقي ؟
ربما صح هذا الرأي لو كان الشاعر ضيق الأفق ضعيف الشاعرية يحصر نفسه في القصيدة التي يعارضها أما إذا كان شاعرا كشوقي قوي الشاعرية واسع الأفق يعارض ولا يقلد ويسير على النهج ولكن لا يأخذ معنى إلا أضاف إليه أو صاغه صياغة جديدة فل
73
حليت من عطل جيد البيان به *** في كل منتثر في حسن منتظم
74
بكل قول كريم أنت قائله *** تحي القلوب وتحي ميت الهمم
75
سرت بشائر بالهادي ومولده *** في الشرق والغرب مسرى النور في الظلم
76
تخطفت مهج الطاغين من عرب *** وطيرت أنفس الباغين من عجم
77
ريعت لها شرف الإيوان فانصدعت *** من صدمة الحق لا من صدمة القدم
78
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم *** إلا على صنم قد هام في صنم
79
والأرض مملوءة جورا مسخرة *** لكل طاغية في الخلق محتكم
80
مسيطر الفرس يبغي في رعيته *** وقيصر الروم من كبر أصم عم
81
يعذبان عباد الله في شبه *** ويذبحان كما ضحيت بالغنم
82
والخلق يفتك أقواهم بأضعفهم *** كالليث بالبهم أو كالحوت بالبلم
83
أسرى بك الله ليلا إذ ملائكه *** والرسل في المسجد الأقصى على قدم
84
لما خطرت به التفوا بسيدهم *** كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
85
صلى وراءك منهم كل ذي خطر *** ومن يفز بحبيب الله يأتمم
86
جبت السماوات أو ما فوقهن بهم *** على منورة درية اللجم
87
ركوبة لك من عز ومن شرف *** لا في الجياد ولا في الأينق الرسم
88
مشيئة الخالق الباري وصنعته *** وقدرة الله فوق الشك والتهم
89
حتى بلغت سماء لا يطار لها *** على جناح ولا يسعى على قدم
90
وقيل كل نبي عند رتبته *** ويا محمد هذا العرش فاستلم
91
خططت للدين والدنيا علومهما *** يا قارئ اللوح بل يا لامس القلم
92
أحطت بينهما بالسر وانكشفت *** لك الخزائن من علم ومن حكم
93
وضاعف القرب ما قلدت من منن *** بلا عداد وما طوقت من نعم
94
سل عصبة الشرك حول الغار سائمة *** لولا مطاردة المختار لم تسم
95
هل أبصروا الأثر الوضاء أم سمعوا *** همس التسابيح والقرآن من أمم
96
وهل تمثل نسج العنكبوت لهم *** كالغاب والحائمات الزغب كالرخم
97
فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم *** كباطل من جلال الحق منهزم
98
لولا يد الله بالجارين ما سلما *** وعينه حول ركن الدين لم يقم
99
تواريا بجناح الله واستترا *** ومن يضم جناح الله لا يضم
100
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي *** وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
101
المادحون وأرباب الهوى تبع *** لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
102
مديحه فيك حب خالص وهوى *** وصادق الحب يملي صادق الكلم
103
الله يشهد أني لا أعارضه *** من ذا يعارض صوب العارض العرم
104
وإنما أنا بعض الغابطين ومن *** يغبط وليك لا يذمم ولا يلم
105
هذا مقام من الرحمن مقتبس *** ترمي مهابته سحبان بالبكم
106
البدر دونك في حسن وفي شرف *** والبحر دونك في خير وفي كرم
107
شم الجبال إذا طاولتها انخفضت *** والأنجم الزهر ما واسمتها تسم
108
والليث دونك بأسا عند وثبته *** إذا مشيت إلى شاكي السلاح كمي
109
تهفو إليك وإن أدميت حبتها *** في الحرب أفئدة الأبطال والبهم
110
محبة الله ألقاها وهيبته *** على ابن آمنة في كل مصطدم
111
كأن وجهك تحت النقع بدر دجى *** يضيء ملتثما أو غير ملتثم
112
بدر تطلع في بدر فغرته *** كغرة النصر تجلو داجي الظلم
113
ذكرت باليتم في القرآن تكرمة *** وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم
114
الله قسم بين الناس رزقهم *** وأنت خيرت في الأرزاق والقسم
115
إن قلت في الأمر «لا» أو قلت فيه «نعم» *** فخيرة الله في «لا» منك أو «نعم»
116
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له *** وأنت أحييت أجيالا من الزمم
117
والجهل موت فإن أوتيت معجزة *** فابعث من الجهل أو فابعث من الرجم
118
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا *** لقتل نفس ولا جاؤوا لسفك دم
119
جهل وتضليل أحلام وسفسطة *** فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
120
لما أتى لك عفوا كل ذي حسب *** تكفل السيف بالجهال والعمم
121
والشر إن تلقه بالخير ضقت به *** ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسم
122
سل المسيحية الغراء كم شربت *** بالصاب من شهوات الظالم الغلم
123
طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها *** في كل حين قتالا ساطع الحدم
124
لولا حماة لها هبوا لنصرتها *** بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم
125
لولا مكان لعيسى عند مرسله *** وحرمة وجبت للروح في القدم
126
لسمر البدن الطهر الشريف على *** لوحين لم يخش مؤذيه ولم يجم
127
جل المسيح وذاق الصلب شانئه *** إن العقاب بقدر الذنب والجرم
128
أخو النبي وروح الله في نزل *** فوق السماء ودون العرش محترم
129
علمتهم كل شيء يجهلون به *** حتى القتال وما فيه من الذمم
130
دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم *** والحرب أس نظام الكون والأمم
131
لولاه لم نر للدولات في زمن *** ما طال من عمد أو قر من دهم
132
تلك الشواهد تترى كل آونة *** في الأعصر الغر لا في الأعصر الدهم
133
بالأمس مالت عروش واعتلت سرر *** لولا القذائف لم تثلم ولم تصم
134
أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة *** ولم نعد سوى حالات منقصم
135
مهما دعيت إلى الهيجاء قمت لها *** ترمي بأسد ويرمي الله بالرجم
136
على لوائك منهم كل منتقم *** لله مستقتل في الله معتزم
137
مسبح للقاء الله مضطرم *** شوقا على سابخ كالبرق مضطرم
138
لو صادف الدهر يبغي نقلة فرمى *** بعزمه في رحال الدهر لم يرم
139
بيض مفاليل من فعل الحروب بهم *** من أسيف الله لا الهندية الخذم
140
كم في التراب إذا فتشت عن رجل *** من مات بالعهد أو من مات بالقسم
141
لولا مواهب في بعض الأنام لما *** تفاوت الناس في الأقدار والقيم
142
شريعة لك فجرت العقول بها *** عن زاخر بصنوف العلم ملتطم
143
يلوح حول سنا التوحيد جوهرها *** كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم
144
غراء حامت عليها أنفس ونهى *** ومن يجد سلسلا من حكمة يحم
145
نور السبيل يساس العالمون بها *** تكفلت بشباب الدهر والهرم
146
يجري الزمان وأحكام الزمان على *** حكم لها نافذ في الخلق مرتسم
147
لما اعتلت دولة الإسلام واتسعت *** مشت ممالكه في نورها التمم
148
وعلمت أمة بالقفر نازلة *** رعي القياصر بعد الشاء والنعم
149
كم شيد المصلحون العاملون بها *** في الشرق والغرب ملكا باذخ العظم
150
للعلم والعدل والتمدين ما عزموا *** من الأمور وما شدوا من الحزم
151
سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم *** وأنهلوا الناس من سلسالها الشبم
152
ساروا عليها هداة الناس فهي بهم *** إلى الفلاح طريق واضح العظم
153
لا يهدم الدهر ركنا شاد عدلهم *** وحائط البغي إن تلمسه ينهدم
154
نالوا السعادة في الدارين واجتمعوا *** على عميم من الرضوان مقتسم
155
دع عنك روما وآثينا وما حوتا *** كل اليواقيت في بغداد والتوم
156
وخل كسرى وإيوانا يدل به *** هوى على أثر النيران والأيم
157
واترك رعمسيس إن الملك مظهره *** في نهضة العدل لا في نهضة الهرم
158
دار الشرائع روما كلما ذكرت *** دار السلام لها ألقت يد السلم
159
ما ضارعتها بيانا عند ملتأم *** ولا حكتها قضاء عند مختصم
160
ولا احتوت في طراز من قياصرها *** على رشيد ومأمون ومعتصم
161
من الذين إذا سارت كتائبهم *** تصرفوا بحدود الأرض والتخم
162
ويجلسون إلى علم ومعرفة *** فلا يدانون في عقل ولا فهم
163
يطأطئ العلماء الهام إن نبسوا *** من هيبة العلم لا من هيبة الحكم
164
ويمطرون فما بالأرض من محل *** ولا بمن بات فوق الأرض من عدم
165
خلائف الله جلوا عن موازنة *** فلا تقيسن أملاك الورى بهم
166
من في البرية كالفاروق معدلة *** وكابن عبد العزيز الخاشع الحشم
167
وكالإمام إذا ما فض مزدحما *** بمدمع في مآقي القوم مزدحم
168
الزاخر العذب في علم وفي أدب *** والناصر الندب في حرب وفي سلم
169
أو كابن عفان والقرآن في يده *** يحنو عليه كما تحنو على الفطم
170
ويجمع الآي ترتيبا وينظمها *** عقدا بجيد الليالي غير منفصم
171
جرحان في كبد الإسلام ما التأما *** جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي
172
وما بلاء أبي بكر بمتهم *** بعد الجلائل في الأفعال والخدم
173
بالحزم والعزم حاط الدين في محن *** أضلت الحلم من كهل ومحتلم
174
وحدن بالراشد الفاروق عن رشد *** في الموت وهو يقين غير منبهم
175
يجادل القوم مستلا مهنده *** في أعظم الرسل قدرا كيف لم يدم
176
لا تعذلوه إذا طاف الذهول به *** مات الحبيب فضل الصب عن رغم
177
يا رب صل وسلم ما أردت على *** نزيل عرشك خير الرسل كلهم
178
محي الليالي صلاة لا يقطعها *** إلا بدمع من الإشفاق منسجم
179
مسبحا لك جنح الليل محتملا *** ضرا من السهد أو ضرا من الورم
180
رضية نفسه لا تشتكي سأما *** وما مع الحب إن أخلصت من سأم
181
وصل ربي على آل له نخب *** جعلت فيهم لواء البيت والحرم
182
بيض الوجوه ووجه الدهر ذو حلك *** شم الأنوف وأنف الحادثات حمى
183
وأهد خير صلاة منك أربعة *** في الصحب صحبتهم مرعية الحرم
184
الراكبين إذا نادى النبي بهم *** ما هال من جلل واشتد من عمم
185
الصابرين ونفس الأرض واجفة *** الضاحكين إلى الأخطار والقحم
186
يا رب هبت شعوب من منيتها *** واستيقظت أمم من رقدة العدم
187
سعد ونحس وملك أنت مالكه *** تديل من نعم فيه ومن نقم
188
رأى قضاؤك فينا رأي حكمته *** أكرم بوجهك من قاض ومنتقم
189
فالطف لأجل رسول العالمين بنا *** ولا تزد قومه خسفا ولا تسم
190
يا رب أحسنت بدء المسلمين به *** فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
كيف جدد شوقي في المدحة النبوية
- تحدث فيه عن الأخلاق
صلاحُ أمرِك للأخلاق مرِجعُه فقوم النفسَ بالأخلاقِ تستقِـــــمِ
- تحدث فيها عن الفقراء:
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى **** فالكل في حق الحياة سواء
فلو أن إنسانا تخير مـــلة ما اختار إلا دينك الفقراء
- تحدث فيها عن الشريعة:
غراء حامت عليها أنفس ونهى ومن يجد سلسلا من حكمة يحم
نور السبيل يساس العالمون بها تكفلت بشباب الدهر والهرم
- الشكوى من حال المسلمين وتأخرهم وتفكك الرابط بينهم
يا رب هبت شعوب من منيتها واستيقظت أمم من رقدة العـدم
رأى قضاؤك فينا رأى حكمته أكْرم بوجهك من قاضٍ ومنتقــم
فالطُف لأجل رسول العالمين بنا ولا تزد قومه خسفا ولا تسُـم
يا رب أحسنت بَدْءَ المسلمين به فتمِم الفضل وامنح حُسن مختتـم
شرح القصيدة
النسيب
ريم على القاع بين البان والعلم *** أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
- ريم : مخفف من الرئم وهو الظبي الخالص البياض – القاع : الأرض المستوية – البان : نوع من شجر البادية فروعه مستقيمة وورقه كورق الصفصاف سبط القوام تشبه به الحسان في الطول واللين والاعتدال – العلم : الجبل – السفك : الإراقة – الأشهر الحرم : أربعة متواليات دو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد مفرد وهو رجب يحرم فيها القتال في الجاهلية والإسلام
- صاحبته الجميلة البيضاء التي تشبه الظبي الخالص البياض تسكن في تلك الأرض المستوية بين شجر البان المستقيم الجميل وبين الجبل المرتفع قد قست في هجرها وفراقها فأهلكته وأحلت قتله في الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال
- ريم : استعارة تصريحية حيث استعار الريم للمرأة الجميلة – والبيت الأول فيه براعة استهلال ( حسن المطلع ) حيث جاء بألفاظ مستوحاة من البيئة الحجازية ( بيئة الرسول صلى الله عليه وسلم) مثل الرئم والبان والعلم والقاع فكانت الألفاظ تشعر بغرض الشاعر وهو مدح الرسول – ص- وفي البيت الأول تصريع حيث اتفقت حركة الروي بين شطري البيت (العلم ، الحرم)
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا *** يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
- رمى : ألقى وقذف – القضاء : الحكم – جؤذر : ولد البقر الوحشية تشبه به المرأة في اتساع عينيها – أدرك : أدركه أي لحق به – الأجم : شجر كثيف ملتف تسكن فيه الأسود
- إنها أصابته بسهام عينيها وهي امرأة ضعيفة وكأن عينيها سلاح فاتك في يد القضاء أصابته وهو فارس شجاع كالأسد فهو يدعوها ويستغيث بها أن تنصفه من نفسها وتحميه من سطوة استيلاء هواها عليه
- التشبيه لعينيها بعيني الجؤذر في الاتساع والجمال - والجؤذر والأسد : استعارتان تصريحيتان – يا ساكن القاع : كناية عن محبوبته – سكن الأجم : كناية عنه أي الشاعر
لما رنا حدثتني النفس قائلة *** يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
- رنا : نظر في سكون الطرف – يا ويح : كلمة ترحم – السهم : المراد نظرة الجؤذر فإنها كالسهم الذي أصابه وأصله عود من الخشب يسوى في طرفه نصل يرمى به عن القوس
- حين نظرت إليه بعينيها الجميلتين أحس أن سهما نافذا أصاب منه مقتلا فرثى لنفسه من إصابتها بهذا السهم القاتل
- تشبيه نظرتها بالسهم في الإصابة
جحدتها وكتمت السهم في كبدي *** جرح الأحبة عندي غير ذي ألم
- جحدتها : أنكرت الإصابة من السهم المصيب – الجرح : الشق في البدن – كتم : ستر وأخفى – الكبد : عضو في الجانب الأيمن من البطن تحت الحجاب الحاجز – الألم : الوجع
- لم يرفع صوته بالشكوى وطوى كبده على جرحها فهو لا يتألم لجرح الأحبة
- جعل الإصابة حقيقة فجعل يكتم السهم في كبده
يا لائمي في هواه والهوى قدر *** لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم
- لائمي : عاذلي أي من يوجه إلي اللوم والكلام القاسي – هواه : حبه – قدر : قضاء – شفك الوجد : أهزلك العشق – لم تعذل : لم تلم
- إلى من يوجه لي اللوم في حب الجؤذر لا بد لي من هذا الهوى فالحب قضاء الله ولو ذقت ألم العشق لعذرتني وكففت عن لومي كما قال المتنبي ( إنما يعذر العشاق من عشقا )
يا ناعس الطرف لا ذقت الهوى أبدا *** أسهرت مضناك في حفظ الهوى فنم
النعاس : فترة في الحواس يقرب معا النوم أو يقع – الطرف : العين – الذوق : اختبار الطعم وتجربته – أسهرت : السهر الأرق وعدم النوم كل الليل أو بعضه – مضناك : من أتعبته وأمرضته بالحب واستر به كلما ظن برؤه انتكس – حفظ : صيانة وحراسة
- يا ناعسة الطرف ( حيث تمدح المرأة بذلك ) أدعو لكي تنجي من ألم الحب وتكوني خالية البال مع أنك سلبت النوم من عيني
- بين أسهرت ، فنم طباق – ذقت الهوى : استعارة تصريحية
أفديك إلفا ولا آلو الخيال فدى *** أغراك بالبخل من أغراه بالكرم
- أفديك : استنقذك وأخلصك – الإلف : المألوف المحبوب المأنوس به والألفة خاصة تجاذب نفسي في المجال الشعوري تحدث بترابط الأفكار وتجاذب الميول النفسية – آلو : أقصر وأبطيء ولا آلة أي لا أقصر ولا أبطيء في الدعاء بأن أكون فداء له – أغراك : أي حبب إليك الشيء
- يفديه بنفسه ولا يتوانى عن التفدية لخيالها وطيفها الذي يزوره دائما لكرمه في الوقت الذي بخلت هي وضنت عليه بالزيارة
- وبين البخل والكرم : طباق – فداؤه للخيال استعارة مكنية
سرى فصادف جرحا داميا فأسا *** ورب فضل على العشاق للحلم سرى سار ليلا – صادف : تقابل على غير وعد – داميا : تلوث بالدم – أسا : داوى وعالج – الحلم : الرؤيا
- هذا الخيال زاره ليلا وقطع إليه المسافات البعيدة فداوى جرحه وكم للنوم من فضل على المحبين
- سرى الخيال : استعارة مكنية
التعليق على الأبيات
ابتداء القصائد بالغزل في العصور القديمة :
- تمكنت هذه العادة منهم حتى ابتدءوا قصائد الرثاء به فلم يجد كعب بن زهير ( رضي الله عنه ) حرجا في ابتداء قصيدته في مدح الرسول به حيث قال :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ مُتيَّمٌ إثرها لم يفد مكبولُ
وما سعاد غداةَ البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول
- تغزل بسعاد أمام الرسول في مسجده ولم ينكر عليه وعفا عنه
- عاب أبو نواس بدء القصائد بالغزل والوقوف على الأطلال ومنه قوله :
قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضرّ لو كان جلـس؟
اترك الربع وسلمى جانبا واصطبح كرخيّة مثل القبـس
صفة الطّلول بلاغة القـدم فاجعل صفاتك لابنة الكــرم
- وقد عاب المتنبي أيضا هذا التقليد
- ومع ذلك لم يمتنع الشعراء في عصرهما أو المتأخرين عنهما أن يخضعوا لهذا التقليد فمدح كعب وقلده البوصيري وتابع شوقي البوصيري فأثروا الثلاثة هذا الصنيع الجميل
عاب النقاد على الشاعر بدأه بالنسيب وعدوه منافيا لوحدة القصيدة التي يرونها لكل شاعر صادق
- ليس شوقي ملوما في ابتداء مدائحه بالنسيب فقدوته الصحابي الجليل كعب بن زهير
- شوقي فعل كالجاهليين الذين ابتدءوا قصائدهم بالغزل ليستميلوا الأسماع ويجذبوا القلوب لتتهيأ للغرض فالباعث ما زال موجودا فشعراؤنا محقون في ذلك لأنه ليس أقرب للنفوس من الحديث عن عواطفها وبخاصة عاطفة الحب أسمى العواطف .
- لماذا لجأ شوقي إلى ألفاظ وأخيلة ليست من بيئتنا :
- كان هدفه حسن الابتداء وبراعة الاستهلال فاختار ألفاظ في بداية القصيدة تناسب بيئة الممدوح صلى الله عليه وسلم لتبين غرضه من أول وهلة.
- وإن تجاوز حسن الابتداء وأكثر من الأخيلة التي لا تمت إلينا بصلة في مقدمة القصيدة كالريم والعلم والبان والجؤذر والأسد والقاع والأجم .
- ويشترط في الابتداء بالغزل
- أن تكون أخيلته من أجوائنا والصور المرسومة جزء من حياتنا فتشبيه المرأة بالظبي أو بالبدر قد انتهى
- واشتراط القدامى أن يكون الغزل عفا خالصا من التبذل والتكشف.
عاب العقاد ضيق أفق شوقي في الغزل . فماذا قال ؟ وبماذا ترد عليه ؟
- قال العقاد : يمكنك أن تتمثل العواطف التي يمثلها شوقي في شعره فتخرج بإنسان محدود جدا في الغزل وهو أقوى عاطفة إنسانية تجده عند شوقي تأليفا إذ لا يتصور وراء غزله شخصية حقيقة أو عاطفة حقيقية لأنه لو كان هناك عاطفة حقيقة لاختلف عزله في سن العشرين عنه في سن الثلاثين والأربعين وهكذا.
كذلك تختلف شخصية المحبوبة لاختلاف العاطفة ونظرة الشاعر إلى الحياة ولكنك واجد في شعر شوقي غزلا تقليديا كتحيات أهل البلد : أشرقت الأنوار . نهاركم سعيد
- والرد عليه : مع احترامنا لآراء المرحوم العقاد نأخذ على شعر شوقي بشيء كبير من الحظر والتحفظ
- فقد كان ثائرا على شوقي وعلى الشعر التقليدي بعامة فجاءت أحكامه متسمة بكثير من المغالاة والتعسف
- إن لشعر شوقي غزلا لا يقل روعة عن أجمل ما قيل من شعراء متقدمين أو معاصرين وإن كان في هذه القصيدة تقليديا لا أثر لتنوع العاطفة ولا دلالة على صدقها . ولذلك لا نستطيع أن نجرد شوقي من عاطفة الحب إذا ألمح إليها .
خداع الدنيا
يا نفس دنياك تخفى كل مبكية *** وإن بدا لك منها حسن مبتسم
- مبكية : موجعة مؤلمة – بدا : ظهر – مبتسم : مصدر ميمي من ابتسم أو اسم لمكان الابتسام وهو الثغر
- يخاطب نفسه وينبهها إلى حال الدنيا وأنها خادعة تظهر الود وتخفي العداوة تبدو ضاحكة وهي تضمر في لياليها وأيامها كل ما يبكي ويحزن
- يا نفس : استعارة مكنية – وبين تخفي كل مبكية ، وبدا لك منها حسن مبتسم مقابلة
لا تحفلي بجناها أو جنايتها *** الموت بالزهر مثل الموت بالفحم
لا تحفلي : لا تبالي – جناها : ثمرها – جنايتها : إساءتها – الفحم : يتخلف عن إحراق الخشب
- ينصح نفسه ألا تبالي بخير الدنيا أو شرها فقد يجيء الضرر من الخير والعكس فالزهر مع أنه تزين به الحجر وتتمتع به العين ونشم رائحته الطيبة مع ذلك فقد يفسد الهواء الذي يحتاجه الإنسان ليعيش فهو يستوي مع الفحم بدخانه الخانق فالخنق بكليهما ولا فرق
- تشبيه الموت بالزهر بالموت بالفحم والنهاية واحده هنا كما أن النهاية واحدة في حال الدنيا- جناها وجنايتها جناس ناقص
حساب النفس
يا ويلتاه لنفسي راعها ودها *** مسودة الصحف في مبيضة اللمم
يا ويلتاه : كلمة تحسر وإشفاق وأصل الويل الهلاك – راعها : أزعجها – دها : أصاب – مسودة الصحف : الأعمال السيئة – مبيضة اللمم : يريد بها الشيب واللمم جمع لمة وهو الشعر المجاور لشحمة الأذن
- يشفق الشاعر على نفسه وقد أزعجها ما تكشف لها من عكوفها على المعاصي حتى اسودت صحائفها في الكبر والشيب وهو الوقت الذي ينبغي أن تتوب فيه
- مسودة ومبيضة طباق
هامت على أثر اللذات تطلبها *** والنفس إن يدعها داعي الصبا تهم
- هامت :ذهبت غير ملتفة لشيء – على أثر : تقتفي علامة الشيء وأثره – اللذات : الشهوات والرغائب – تطلبها : تريدها – يدعها : يطلبها – داعي الصبا : المقصود اللهو والعبث – تهم : خرجت على غير هدى
- ولكنه مع الأسف ترك نفسه تطلب الشهوات في نهم وغرام بها فالخطأ خطؤه هو فإن النفس إذا خليت وشهواتها هامت بها وجرت ورائها وبالغت في طلبها
- يدعها داعي الصبا تهم استعارة
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه *** فقوم النفس بالأخلاق تستقم
الأمر : الحال والشأن – قوم النفس عدلها وأزل اعوجاجها .
الأخلاق هي التي تعصم من الأخطاء وبها الصلاح لكل أمر ومتى أقام الإنسان نفسه على حكم الأخلاق استقامت.
والنفس من خيرها في خير عافية *** والنفس من شرها في مرتع وخم
العافية : الصحة التامة – مرتع : اسم مكان من رتعت الماشية أي رعت – وخم : وبيء رديء
النفس تسعد بما تفعل من خير وتشقى بما تكسب من شر
مقابلة معنيين بمعنيين :
من خيرها في خير عافيةٍ ومن شرّها في مَرْتع وخــــم
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل *** في الله يجعلني في خير معتصم
جل : عظم – الغفران : العفو – أمل : رجاء – يجعلني : يصيرني – معتصم : اسم مكان أو مصدر ميمي يعني مستمسك من اعتصم بكذا أي استمسك به واعتصم بالله : أطاعه وامتنع عن معصيته
- عندما تكثر ذنوبه وتعظم بحيث تعتقد أنه لا غفران له فإنه يبعث السلوة إلى نفسه بما يؤمله من غفران لذنوبه عند الله وهذا ما يجعله آمنا من عذاب الله .
- جل ذنبي : كناية عن كثرة الذنوب
ألقى رجائي إذا عز المجير على *** مفرج الكرب في الدارين والغمم
ألقي : أطرح – رجائي : أملي – عز المجير : صعب الحصول على من يجير من العذاب والمجير هو الحامي والمنقذ – على مفرج الكرب : كاشف الحزن والغم يقصد الرسول سامحه الله – في الدارين : في الدنيا والآخرة – الغمم : جمع غمة وهي الكرب والحزن
- يلقي رجاءه على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان رحمة في الدنيا وسيكون رحمة لهم في الآخرة فهو يكشف عنهم الكروب في الدنيا والآخرة
التعليق على الأبيات
ضمن شوقي في مقدمته ثلاث فنون وهي : النسيب ، صف الدنيا ، حساب النفس ...هل كان موفقا في وصل النسيب بوصف الدنيا ؟ أو وفق في التخلص من وصف الدنيا لحساب النفس ؟ وهل أحسن التخلص إلى جملة الغرض ؟
- لم يكن دقيقا في وصل النسيب بوصف الدنيا ولكنه مهد في أخريات الفن الأول للفن الثاني فإنه ذكر أنه وجد في خيمة صاحبته المنى والمنايا فيشير إلى أن الدنيا تجمع بين المضحكات والمبكيات فتخفي الثانية وتظهر الأولى حيث قال :
ما كنت أعلم حتى عن مسكنه *** أن المنى والمنايا مضرب الخيم
- نعم أحسن التخلص من وصف الدنيا لحساب النفس ففي نهاية الفن الثاني ذكر أن الدنيا كثيرا ما ضللته وأن من حجبت بصيرته يقدم على ما يضره فقال :
كم ضللتك ومن تحجب بصيرته *** إن يلق صابا يرد أو علقما يسم
فكان مناسبا أن يقول في بداية الفن الثاني :
يا ويلتاه لنفسي راعها ودها *** مسودة الصحف في مبيضة اللمم
وأحسن التخلص إلى جملة الغرض حيث قال في البيتين الآخرين من المقطوعة
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل *** في الله يجعلني في خير معتصم
ألقى رجائي إذا عز المجير على *** مفرج الكرب في الدارين والغمم
- عاب النقاد على شوقي في عدم اقتصاره على النسيب في افتتاح قصيدته بل أضاف فنيين آخرين . وضح ذلك .
لم يقتصر شوقي على النسيب ولكنه أضاف إليه وصف الدنيا وحساب النفس ولكن المنصف يبرئ شوقي من هذه العيب لأن كل ما ذكره في الغرضين يتفق مع الغرض الأصلي وهو مدح الرسول –ص- فالتحذير من الاغترار بالدنيا والدعوة إلى تهذيب النفس وحسابها على ما اقترفت وأن الأخلاق هي المرجع الأول في صلاح الأمور والنفس تعيش مع الخير في طمأنينة وسعادة ومع الشر في نكد وكدر . هذه المعاني يمهد بها الشاعر للجو النفسي الذي ينبغي أن تسمع فيه مدحة للرسول (ص)
لزمت باب أمير الأنبياء ومن *** يمسك بمفتاح باب الله يغتنم
علقت من مدحه حبلا أعز به *** في يوم لا عز بالأنساب واللحم
محمد صفوة الباري ورحمته *** وبغية الله من خلق ومن نسم
قد أخطأ النجم ما نالت أبوته *** من سؤدد باذخ في مظهر سنم
نموا إليه فزادوا في الورى شرفا *** ورب أصل لفرع في الفخار نمي
لزمت : داومت الوقوف أمامه – أمير الأنبياء : محمد (ص) وهو مفتاح باب الله – يغتنم : يظفر بالغنيمة – علقت : أمسكت - أعز به : أتقوى به – الأنساب : القرابة من الآباء خاصة – اللحم : القرابة – اليوم : المقصود يوم القيامة – صفوة : الصفوة هم الأخيار - الباري : اسم من أسماء الله وأصله البارئ – البغية ما يبتغى ويطلب – النسم جمع نسمة وهي الإنسان – السؤدد : السيادة – الباذخ والسنم : المرتفع – نموا : نسبوا
- وقف الشاعر بباب الرسول –ص- وأطال الوقوف والرجاء الدائم عسى أن يظفر بالنور وبشفاعة النبي –ص-
- وقد اتخذ من مدح الرسول وسيلة لنيل العز يوم القيامة يوم لا تنفع قرابة ولا نسب وكأنه استفاد ذلك من قوله تعالى (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه...)
- فالنبي –ص- اختاره الله من خلقه لأداء رسالة الحق وهو رحمته المسداة إلى عباده .
- وقد علا نسبه الشريف وهو الكريم في نفسه وفي نسبه حتى كانت النجوم مع ارتفاعها في السماء دون نسبه رفعة وبلغ آباؤه من المجد ما لا غاية ورائه.
- وقد زاد بني هاشم أنهم انتسبوا إلى الرسول وكم من أب علا بابن مدارج الشرف وهذا المعنى الغريب فقط في هذه المقطوعة مأخوذ من قول ابن الرومي في أبي الصقر :
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكن منه شيبان
وكم من أب قد علا بابن ذرا شرف كم علت برسول الله عدنان
- وإذا كان لابن الرومي فضل السبق فلشوقي فضل الإيجاز فقد نظم معنى البيتين في بيت واحد
نموا إليه فزادوا في الورى شرفا *** ورب أصل لفرع في الفخار نمي
وله فضل آخر وهو زيادة المعنى فإنه أشار إلى شرف آباء الرسول فهم شرفاء في أنفسهم ثم زاد نسبتهم إلى رسول الله شرفا وقد خلا بيتا ابن الرومي من ذلك حتى فهم منهما أن شيبان – مع أنها قبيلة عظيمة – قد استمدت شرفها من الصقر هذا .
البعثة وحال قريش
سائل حراء وروح القدس هل علما *** مصون سر عن الإدراك منكتم
كم جيئة وذهاب شرفت بهما *** بطحاء مكة في الإصباح والغسم
نودي اقرأ تعالى الله قائلها *** لم تتصل قبل من قيلت له بفم
هناك أذن للرحمن فامتلأت *** أسماع مكة من قدسية النغم
فلا تسل عن قريش كيف حيرتها *** وكيف نفرتها في السهل والعلم
تساءلوا عن عظيم قد ألم بهم *** رمى المشايخ والولدان باللمم
حراء : جبل في الطرق الشرقي من مكة في طريق الذهاب إلى منى وعرفات وكان به الغار الذي كان يتعبد فيه الرسول (ص) قبل البعث وفيه نزل عليه القرآن – روح القدس جبريل عليه السلام – مصون : محفوظ ومصون – سر : يريد الرسالة – بطحاء مكة : ميل واسع بين جبل مكة وكانت تنزل فيه أكثر القبائل وأعزها ولذلك سموا قريش بالبطاح – الغسم : اختلاط الظلمة ، وغسم الليل وأغسم أي أظلم _- تعالى ترفع وتنزه – أذن للرحمن : دعا إليه – قدسية النغم : مطهرة النغم – نفرتها نفورها – السهل : المنبسط من الأرض – العلم : الجبل – ألم بهم : نزل بهم – اللمم : الجنون .
- انتقل الشاعر إلى صور من حياة الرسول فابتدأ بالصورة التي تتصل برسالته ذلك أن الرسول كان يتحنث قبل البعثة في غار حراء الليالي ذوات العدد فالشاعر يشير إلى هذه الحقبة من حياة الرسول ويعجب هل كان هذا الغار وهل كان جبريل – وهو مقرب من الله تعالى- يعلمان ما يضمره الغيب للرسول من اصطفائه للرسول من اصطفائه للرسالة
- سائل حراء : استعارة
• وكم كان الرسول يتنقل في وديان مكة ذاهبا للغار أو راجعا منه في الصباح والمساء وكان هذا شرفا لهذه الأماكن التي وطئتها قدمه عليه الصلاة والسلام .
• وقد ظل كذلك حتى هبط عليه الوحي بالرسالة وناداه اقرأ وهي كلمة علوية كان هو أول من سمها
• فلما بشر بالرسالة دعا إلى الله فشاعت كلماته العذبة المطهرة في جميع أرجاء مكة .
• وهنا اضطربت قريش وأخت الحيرة والدهشة منها كل مأخذ ثم تأبت ونفرت من هذا الصوت الجميل العذب فامتلأت أسماع مكة وفيها استعارة مكنية
• وأخذ القرشيون يتساءلون فيما بينهم عن النبأ العظيم وعن الخطب الجلل الذي حل بهم فأفقدهم صوابهم شيبهم وشبابهم .
جهل قريش ومعجزة الرسول
يا جاهلين على الهادي ودعوته *** هل تجهلون مكان الصادق العلم
لقبتموه أمين القوم في صغر *** وما الأمين على قول بمتهم
جاء النبيون بالآيات فانصرمت *** وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كلما طال المدى جدد *** يزينهن جلال العتق والقدم
يكاد في لفظة منه مشرفة *** يوصيك بالحق والتقوى وبالرحم
الجهل الأول : بمعنى الاعتداء – الجهل الثاني : عدم العلم – الهادي الأصل أنه من أسماء الله الحسنى – مكان: منزلة – العلم : المشهور أو الجبل – لقبتموه : اللقب علم التشريف – الأمين : المأمون – بمتهم بمشكوك في صدقه – الآيات في الأصل العلامات المراد هنا معجزات الأنبياء – انصرمت : انقطعت أي انتهت ولم تخلد – حكيم : المراد به القرآن – المدى : هو في الأصل الغاية والمراد هنا الزمن – جدد:جمع جديد – العتق : الجمال والشرف وكرم الأصل – لفظة : كلمة جامعة – الرحم : القرابة
• يلتفت الشاعر إلى قريش الذين أصابتهم دعوة الرسول بالذهول والطيش وحملتهم على أن يسيئوا معاملته فيحجبهم بما كان معروفا به عنهم من صدق وأنهم لا يجهلون مكانته في قومه وهو الصادق والمشهور بهذ الوصف
• وقد كانوا يلقبونه بالأمين قبل البعثة وإذا كان أمينا فيما يستودع من ودائع فكيف يتهم فيما يبلغه عن ربه. إن المنطق يحتم أن من كان صادقا في هذا المدى الطويل من عمره وفي مثل هذه البيئة الجاهلية لا يمكن أن يدعو زورا أو يصطنع كذبا .
• ثم يصف القرآن الكريم بأنه معجزة خالة في حين كانت معجزات الأنبياء السابقين مرهونة بأوقاتها
• وبأن آياته لا تمل على كثرة الرد بل كلما كررها القارئ وطال عليها الزمن بدت جديدة مع ما يزينها من كرم معدنها ومن عمرها المديد في أعماق الزمن .
• ويصفه بالإيجاز الرائع حتى لتكاد اللفظة الواحدة منه تتضمن من المعاني الكثيرة أروعها وأفخمها وأنبلها
وقد نقل شوقي هذه المعاني من البوصيري الذي قال في وصف القرآن:
آيات حق من الرحمن محدثة = قديمة صفة الموصوف بالقدم
دامت لدينا ففاقت كل معجزة = من النبّيين إذ جاءت ولم تدم
فما تعد ولا تحصى عجائبها = ولا تسام على الإكثار بالسأم
وإذا وضعنا أبيات شوقي في وصف القرآن أمام أبيات البوصيري رأينا :
1. أن البوصيري نص على أن معجزة الرسول فاقت كل معجزات الأنبياء في حين لم يصرح شوقي بذلك
2. أن شوقي تبع البوصيري في القول بأن القرآن معجزة باقية خالدة فقال البوصيري ( دامت لدينا ... ) وعبر شوقي بقوله ( غير منصرم .... ) وعبارة شوقي أجود وأدق فقد حكم على القرآن بأنه لا ينقطع في حين اكتفى البوصيري بأن القرآن ( دام لدينا) وهو تعبير قاصر ضعيف
3. اشترك الشاعران في القرآن آياته ذات رونق ثابت وبهاء متجدد عبر البوصيري عن ذلك بأن عجائب القرآن تسأم منها مهما كررت القراءة والترداد لها وعبر شوقي بأنها جديدة مهما طال عليها الأمد وكلاهما أخذ المعني م قول النبي – ص - : ( لا يخلق على كثرة الرد ) .
غير أن البوصيري عبر عن ذلك تعبيرا مباشرا في حين عبر شوقي بمعنى آخر وهو تجدده على طول الزمن وقد أضعف البوصيري عبارته بما تكلفه فيها من جناس فجاءت عبارة شوقي أصفى وأجمل وأجزل.
قبل البعثة
سرت بشائر بالهادي ومولده *** في الشرق والغرب مسرى النور في الظلم
تخطفت مهج الطاغين من عرب *** وطيرت أنفس الباغين من عجم
ريعت لها شرف الإيوان فانصدعت *** من صدمة الحق لا من صدمة القدم
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم *** إلا على صنم قد هام في صنم
والأرض مملوءة جورا مسخرة *** لكل طاغية في الخلق محتكم
بشائر : الأخبار السارة – تخطفت : أخذت أخذا قويا – مهج : جمع مهجه وهي الدم أو دم القلب أو الروح – الطاغين : جمع طاغية وهو المسرف في الظلم – الباغين : جمع المستطيل – ريعت : ذعرت وفزعت – شرف : جمع شرفة وهي المكان البارز من البيت – القدم : جمع قدوم وهو آله للنجر – فوضى : لا نظام لهم ولا استقرار لأمورهم – لا تلم : لا تنزل به – صنم : الأول للضال من الناس عن الحق والثاني هو الوثن الذي يعبد من دون الله – جورا : ظلما – محتكم : مستبد .
o يتحدث شوقي عن الفرحة التي عمت العالم شرقه وغربه بمولد النبي – ص – وقد كانت بشائر مولده وسط ضلالات الجاهلية المستحكمة أشبه بالأنوار تسري في رفق وسهولة بين الظلمات فتبددها
- الشرق والغرب ، والنور والظلم : طباقان
o ولكنها كانت وبالا على الظالمين سواء من العرب أو من العجم فقد ارتاعت لها قلوبهم وانصدعت منها نفوسهم
- عرب وعجم : جناس ناقص ، وطباق
o وقد كان من إرهاصات النبوة ما حدث لإيوان كسرى فقد تصدعت شرفاته يوم ميلاد النبي –ص- وهي لم تصدع بآلات حسية عملت على هدمها وإنما تصدعت بما أحسته من قرب ظهور الحق على الأرض .. اقتصر شوقي في الحديث عن الإرهاصات التي صحبت ميلاد الرسول على ما حدث لإيوان كسرى والتاريخ والمدائح النبوية تذكر إرهاصات أخرى منها خمود نار فارس وذهاب الماء من بحيرة ساوة
- ريعت لها شرف الإيوان : استعارة مكنية
o وعندما بعث النبي كان الناس غارقين في الضلال والظلام لا حاكم يرجعون إليه ولا قانون يحفظ لذوي الحق حقوقهم وما الناس إلا ضال أبله يهيم في حجر أصم يتخذه إلها من دون الله
– صنم وصنم : جناس
o وليس للضعفاء من يحميهم أو يأخذ لهم حقوقهم فالسلطان والغلبة للقوي المستبد والمهانة والتسخير للضعيف
- والأرض مملوءة جورا : استعارة
امتازت هذه المقطوعة بالقوة في الأداء والألفاظ الجزلة والعبارات الفخمة والصور البيانية الجميلة والمحسنات البديعية كل هذه الألوان أضفت على الأبيات مسحة من الجمال أشاعت فيها الموسيقى العذبة
الهجرة
سل عصبة الشرك حول الغار سائمة *** لولا مطاردة المختار لم تحم
هل أبصروا الأثر الوضاء أم سمعوا *** همس التسابيح والقرآن من أمم
وهل تمثل نسج العنكبوت لهم *** كالغاب والحائمات الزغب كالرخم
فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم *** كباطل من جلال الحق منهزم
لولا يد الله بالجارين ما سلما *** وعينه حول ركن الدين لم يقم
تواريا بجناح الله واستترا *** ومن يضم جناح الله لا يضم
العصبة من الرجال: ما بين العشرة إلى الأربعين – الغار : غار ثور وهو الذي اختفى فيه النبي الهجرة – مطاردة : حملوا عليه وجدوا في طلبه – الأثر : بقية الشيء – الوضاء : الحسن والمراد أثر أقدام النبي وهو ذاهب للغار – أمم : قريب – الغاب : الشجر الكثير الملتف – الحائمات الزغب : الحمائم الصغار والزغب لين وصغيره – الهمس : الكلام الخفي – الرخم : طائر معروف ضخم الجثة فأدبروا : ولوا – جلال : عظمة - الجارين محمد –ص- وأبو بكر رضي الله عنه – تواريا : استظلا – لا يضم : لا يذل
• حين لجأ النبي – ص – على غار ثور تتبع مشركو مكة أثره – ومعهم الخبراء باقتفاء الأثر – وما زالوا يسيرون حتى انتهوا إلى الغار وهنا تجلت عناية الله الكبرى برسوله- ص – وصحبه فلو أن احد المشركين نظر تحت قدميه لرآهما وما كانوا يدورون إلا لغرض اقتفاء أثر الرسول للنيل منه
- حائمة ، ولم تحم : طباق السلب
• ويعجب الشاعر من هؤلاء المطاردين للرسالة هل أبصروا أثر الرسول – ص – المشرق على الطريق أم سمعوه وهو يهمس خافتا مسبحا قارئا وما الذي حجب عنهم رؤية الرسول – ص – وكانت في أيسر مقدورهم وماذا هالهم حتى عميت أبصارهم وفي البيت استفهام مجازي
• هل خيل لهم نسج العنكبوت ذلك النسج الضعيف الواهي بغاب ذو شجر كثيف لا يمكن اقتحامه ؟ أو خيل لهم أن الحمام الصغير الذي ابتنى عشه على فم الغار رخم جارح فخافوها ؟
- فشبه نسج العنكبوت بالغاب والحائمات الزغب بالرخم
• وقد لحقت بهم الخيبة والخزي هؤلاء المشركين فرجعوا حيارى ضالين لم يظفروا ببغيتهم وكأنما كانت كل بقعة من الأرض تلعنهم وتسفه أحلامهم
- شبههم في إدبارهم بالباطل المنهزم من جلال الحق
• وقد كان كشف المهاجرين العظيمين ميسورا لهم لولا أن الله أحاطهما بعنايته ومنعتهما بقدرته ونصره كما كان القضاء على الإسلام في متناول أيدي المشركين لولا أن الله جلت قدرته حفظه ورعاه وكيف لبشر أن يصل إلى من يبسط الله عليه جناحه ؟
- ومن يضم جناح الله لا يضم، وتواريا بجناح الله : استعارة مكنية
- ويد اله ، وعين اله مجازان مرسلان
فخره بالتسمية ودفاعه عن غزوات الرسول
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي *** وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا *** لقتل نفس ولا جاؤوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة *** فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لما أتى لك عفوا كل ذي حسب *** تكفل السيف بالجهال والعمم
والشر إن تلقه بالخير ضقت به *** ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسم
- يتسامى : يتعالى - - سمي : اسمه موافق لاسم الرسول – ص – سفك الدم: إراقته – الأحلام : العقول – السفسطة : التمويه والمخادعة بالقول – عفوا : دون مجهود – العمم : عامة الناس – ضقت به ذرعا : لم تستطع تحمله – ينحسم : ينقطع من أصله
يفخر شوقي لموافقة اسمه اسم الرسول – ص – وهو (أحمد) ويستبعد ألا يتعاظم من وافق اسمه اسم الرسول - ص -
ثم يتناول موضوع غزوات الرسول فيذكر أن الجاهليين والمضللين يعيبون على الإسلام في هذه الغزوات وحجتهم أن الرسل جاءوا هداة مرسلين ورفقاء مسالمين ولم يبعثوا ليقتلوا الناس أو يريقوا دماءهم .
فصنيع الرسول لا غبار عليه فقد دعا إلى التوحيد وترك الضلالات والأوهام بالحجة والكلمة الرقيقة فلما أعياه أمر بعضهم كشف العماية عنهم بالسيف والقتال
وعذر الإسلام في ذلك واضح ففي بعض الأحايين لا يحسم الشر إلا بالشر ويعجز اللين عن إقناع الطغاة المستبدين والجهلة الغافلين ومادام الرفق لم ينجح في استئصال الشر فلا مندوحة من الشدة والقوة .
- لم يلتزم شوقي بالترتيب التاريخي للأحداث فقد تحدث بعد المقدمة عن نسب الرسول – ص – وعن اختفائه في الغار وعن بعض معجزاته الحسية وعن بدأ الوحي والقرآن وعن فصاحة النبي – ص – ثم انتقل في الحديث عن ميلاده وإرهاصات ذلك الميلاد ثم الحديث عن الإسراء والمعراج ثم عن الهجرة واختم بالاحتجاج لحروب النبي – ص –
- قول شوقي :
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي *** وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
يشبه قول البوصيري :
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم
كما يشبه قول البارودي :
أم كيف يخذلني من بعد تسميتي باسم له في سماء العرش محترم
- وقد فضل الأمير شكيب أرسلان بيت شوقي على بيت البوصيري . وعندي أن بيت البوصيري أقوى معنى وأجمل أسلوبا وأسلس تعبيرا فإن البوصيري جعل من تسميته محمدا عهدا عند الرسول والرسول أوفى الخلق بالعهود وهو بمأمن بسبب هذه التسمية من كل ما يخاف منه الخائفون ويطمع لهذا السبب في أن يشفع له الرسول – ص –
- أما شوقي فاكتفى بالجاه والتعالي على الناس باشتراكه مع الرسول في الاسم وتعبيره (تسميتي – يتسامى – سمي ) فيه تكلف ذهب برونق البيت .
- أما بيت البارودي ففيه استفهام القصد منه استبعاد أن يخذله الرسول بعد تسميته باسمه ومع أن الاستفهام على هذا معبر وذو إيحاء مشعر بأن الشاعر شديد الرجاء في شفاعة الرسول بسبب اتفاقهما في الاسم ومع هذا كان معناه أضعف من معنى البوصيري ومن معنى شوقي ثم إن كلمة ( محترم ) كلمة بعيدة عن جو الشعر الجيد .
الصلاة على الرسول والنخبة الكرام
يا رب صل وسلم ما أردت على *** نزيل عرشك خير الرسل كلهم
محي الليالي صلاة لا يقطعها *** إلا بدمع من الإشفاق منسجم
مسبحا لك جنح الليل محتملا *** ضرا من السهد أو ضرا من الورم
رضية نفسه لا تشتكي سأما *** وما مع الحب إن أخلصت من سأم
وصل ربي على آل له نخب *** جعلت فيهم لواء البيت والحرم
وأهد خير صلاة منك أربعة *** في الصحب صحبتهم مرعية الحرم
- نزيل عرشك : يشير إلى ما كان ليلة المعراج من صعود النبي – ص – إلى مكان لم يصل إليه أحد من قبل – الإشفاق : الخوف – منسجم : غزير – جنح الليل : طرفه – السهد : السهر والأرق – الورم : انتفاخ العضو – السأم : الملل – نخب : المختارون والصفوة
- طلب الشاعر من الله الصلاة والتسليم على محمد خير رسله الذي اختصه بالصعود إلى حضرته العلية . هذا الرسول الذي أحيا لياليه بالعبادة والبكاء خوفا من الله ، ودأب على تسبيح الله وتمجيده لا يبالي ما يلقاه من تعب وسقم في سبيل ذلك ، وراضيا بذلك لا يشكو مللا ، وكيف يشكو وهو محب مخلص .
كما طلب شوقي من ربه أن يصلي على آل الرسول ، الذين خصهم من قديم بخدمة بيته ، وقد كانوا أشرافا أعزة ، لا يعبسون مهما أظلم وجه الدهر ولا يخفضون رؤوسهم مهما اشتدت الأحداث وتتابعت الخطوب ، وأن يصلي على أصحابه الأربعة ، أولئك الذين لا تنكر صحبتهم وهم الخلفاء الراشدون .
الشكوى من أحوال المسلمين
يا رب هبت شعوب من منيتها *** واستيقظت أمم من رقدة العدم
سعد ونحس وملك أنت مالكه *** تديل من نعم فيه ومن نقم
رأى قضاؤك فينا رأي حكمته *** أكرم بوجهك من قاض ومنتقم
فالطف لأجل رسول العالمين بنا *** ولا تزد قومه خسفا ولا تسم
يا رب أحسنت بدء المسلمين به *** فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
هبت : تبهت – تديل : تغير من حال إلى حال – خسفا : إهلاكا أو ذلا – تسم: يقال سامه العذاب إذا أوقعه به
واتجه شوقي إلى ربه بالشكوى مما أصاب المسلمين من تخلف وتأخر ، ففي الوقت الذي تقدمت فيه شعوب كثيرة بعد تخلفها ونهضت بعد كبوتها كان حال المسلمين على العكس ، فقد تأخروا بعد تقدمهم وكبوا بعد نهوض
ويسأل الله سبحانه أن يلطف بالمسلمين لأجل رسوله الكريم ، وألا يؤاخذهم بما يفعلون ، فينزل بهم الخسف بعد الخسف ، ثم ينهي قصيدته بأن يسأل ربه الذي أحسن بدء المسلمين بمحمد رسوله الكريم أن يتم فضله عليهم ، ويمنحهم خاتمة سعيدة.
س - ما معنى المعارضة ؟ ومن الذي عارضه شوقي ؟ وبماذا يدل قوله : " والله يعلم أني لا أعارضه ؟
المعارضة : هي أن ينظم شاعر قصيدة على مثال قصيدة أخرى في غرضها ووزنها وقافيتها وموضوعها، وعارض شوقي في هذه القصيدة البوصيري .. وقال قولته هذه وهو يقدم شرح نهج البردة للشيخ البشري وذلك إكبار منه للبوصيري وتواضع من شوقي فهو ينفي عن نفسه القدرة على معارضة هذا الإمام .
س- رأى أحد نقادنا المعاصرين أن المعارضة ليست من الفن الصحيح في شيء بل هي محض صناعة فماذا قال ؟ وهل صح هذا الرأي على معارضة شوقي ؟
ربما صح هذا الرأي لو كان الشاعر ضيق الأفق ضعيف الشاعرية يحصر نفسه في القصيدة التي يعارضها أما إذا كان شاعرا كشوقي قوي الشاعرية واسع الأفق يعارض ولا يقلد ويسير على النهج ولكن لا يأخذ معنى إلا أضاف إليه أو صاغه صياغة جديدة فل
الجمعة فبراير 13, 2015 12:42 pm من طرف شافي سيف
» the comandmentes
الجمعة فبراير 13, 2015 12:25 pm من طرف شافي سيف
» الواضح في المنطق الشرعي
السبت ديسمبر 21, 2013 12:36 pm من طرف شافي سيف
» تابع الوضوح في المنطق
السبت ديسمبر 21, 2013 12:28 pm من طرف شافي سيف
» المنطق لطلبه الدراسات
السبت ديسمبر 21, 2013 12:20 pm من طرف شافي سيف
» مدرسه دمنهور المعتصمه
الثلاثاء يناير 08, 2013 11:50 pm من طرف شافي سيف
» الاختبار الشفوي بمعهد فتيات دمنهور
الثلاثاء يناير 08, 2013 11:31 pm من طرف شافي سيف
» لو كنت شمسا لاصطفيتك
الأربعاء أكتوبر 17, 2012 4:32 pm من طرف شافي سيف
» هنيئا لكلب وسدته الكلاب
الأربعاء أكتوبر 17, 2012 4:31 pm من طرف شافي سيف