أحكام
خطبة النساء
في الإسلام
2010م يناير محرم 1431هـ/
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
قال الله تعالى: ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ [الروم: 21]
الإهداء
إلى كل مسلم ومسلمة يريد أن يتزوج على منهج الله وسنة رسوله ،
إلى الأولياء،
إلى الفتى والفتاة،
إلى مَن يرغب في إكمال دينه، كما قال (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف دينه، فليتق الله في النصف الآخر) رواه البيهقي في كتاب شعب الإيمان، فصل في الترغيب في النكاح.
أُهدي هذا الكتاب، عسى أن ينفع الله به، فيجد فيه بغيته قبل أن يقدم على الخطبة المباركة، ثم الزواج الذي من أهدافه: إعمار الأرض بِمَن يعبد الله وحده لا شريك له.
والله ولي التوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، المنـزل عليه قوله تعالى: ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ [الروم: 21]، والقائل فيما رواه الإمام أحمد (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومَن نَهج منهجهم، وترسم خطاهم إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فقد تقدمت بهذا البحث إلى كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة قبل ثلاثة عقود من الزمان، ثم رأيت أن أقدمه إلى القارئ في هذه الأيام، عسى أن يكون فيه النفع والفائدة؛ راجياً من الله تعالى التوفيق والسداد، والقبول في القول والعمل، فما كان فيه من صواب فمن الله تعالى، فهو الموفق والمعين، وما كان فيه من خطأ وتقصير فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأستغفر الله العظيم من الخطأ والتقصير.
وقد جمعت هذا البحث من كتب السلف الصالح رحمهم الله، وغفر لهم، وأجزل لهم الأجر والمثوبة، وتوخيت فيه سهولة العبارة، ووضوح الأسلوب، وصحة المعلومة؛ كي يتمكن المطلع عليه من فهمه، والحصول على المعلومة التي يريدها بسهولة ويسر، فأرجو الله تعالى أن ينال هذا البحث رضى الجميع.
والحمد الله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النِّعمة، وجعلنا مسلمين.
وقد قسمت البحث إلى ثمانية فصول:
الفصل الأول: التعريف، فقد عرّفت الخطبة في اللغة والشرع، وذكرت الفرق بين الخِطبة ـ بكسر الخاء ـ والخُطْبة ـ بضم الخاء.
الفصل الثاني: الصِّفات التي تكون في المخطوبة، فقد ذكرت في هذا الفصل أن الإسلام رغّب في أن تكون المخطوبة بِكْراً، ومستقيمة، ومِن أهل دين وتقى، ومِمّن عُرِفوا بالنّسل الطّيِّب؛ لأنه الأساس من الزواج.
الفصل الثالث: طرق الخطبة، وقد قلت فيه: إن للخِطبة طريقين، هما: التعريض والتصريح.
فالتعريض: ما كان بعبارة لا تدلّ على الخِطبة، ولكن يُفْهم منها قصد الخطبة بالقرائن والأحوال.
والتصريح: ما كان بعبارة صريحة، وقد فصلت ذلك في موضعه.
الفصل الرابع: شروط جواز الخِطْبَة، وقد قلت فيه: إنّ للخطبة شرطين لا تصح إلا بهما، وهما:
1- أن تكون خالية من الموانع الشرعية التي تمنع زواجه منها في الحال.
2- أن لا يسبقه غيره إليها بخطبة شرعية.
الفصل الخامس: حكم الخِطْبة على خِطْبة الغير، وقد تَوَّجْت هذا الفصل بقول الرسول :
(لا يخطب أحدكم على خِطْبَة أخيه حتى ينكح أو يترك) متفق عليه.
وقد فصّلت ذلك في مكانه.
الفصل السادس: حكم رؤية المخطوبة والاختلاط، والخلوة، وقد بينت اختلاف العلماء في هذا، ووضحته في موضعه.
الفصل السابع: عادات وتقاليد الأمم والشعوب في الخِطبة، تجد تفصيل ذلك في موضعه من البحث.
الفصل الثامن: حكم من عدَل عن مخطوبته.
والخطبة ـ كما سيأتي ـ: «مقدّمة تسبق عقد النكاح» أو هي: «عبارة عن وعد بالزواج»، وقد يكون في هذه الفترة التي تسبق العقد الشرعي الكثير من الهبات والهدايا من الخاطب أو المخطوبة، فما حكم ذلك؟ تجد الجواب في مكانه من البحث. : ثم السيرة الذاتية :
والله أسأل أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعنا ومن يقرأ هذا البحث، بما فيه من مادة علمية، وأن يوفق المسلمين لما فيه سعادتهم، في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً﴾ [النساء: 1].
﴿وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألاّ تعدلوا﴾ [النساء: 3].
ثم بعد مضي أكثر من ثلاثين عاما على كتابتي لهذا البحث، وجمع مادته العلمية؛ رأيت أن أعيد صياغته، وربّما زدت فيه أو حذفت منه، ثم أقدمه للقارئ، عسى أن يجد فيه النفع والفائدة.
والله ولي التوفيق.
الفصل الأول
تعريف الخطبة
ذكر أهل اللغة للخِطْبة تعاريف كثيرة، نختار منها الأقرب إلى موضوعنا:
فقال صاحب «مختار الصحاح»( ):
«خَطَب، الخطب: سبب الأمر، تقول: ما خَطْبُك؟ قلت: قال الأزهري: أي ما أمرُك، وتقول: هذا خَطْب جليل، وخَطْب يسير، وجمعه: خُطُوب»( ). اهـ
وخاطَبَه بالكلام مخاطبة وخِطاباً، وخطب على المنبر خُطْبَة ـ بضم الخاء ـ وخَطَابة.
وخَطب المرأة في النكاح خِطْبة ـ بكسر الخاء ـ يَخْطُب ـ بضم الطاء فيهما، واختطب أيضاً فيهما.
وخَطب من باب ظَرف: صار خطيباً.
وأكثر ما تَرِد هذه الكلمة في بحثي هذا بالكسر؛ لأنّها المقصود، وجميع فصوله تدور على الخِطْبَة ـ بكسر الخاء.
تعريف الخِطْبة في الاصطلاح:
ذكر أصحاب كتب الفقه الخِطْبة فقالوا:
الخِطْبة ـ بكسر الخاء ـ طلب الزّواج من امرأة معينة، وعَرْض هذه الرّغبة عليها، أو على أهلها، وقد يعرض هذا من يريد الزواج بنفسه، وقد يوَكِّل غيره، فإذا ما أُجِيب الخاطب إلى طلبه، فقد تمت الخِطْبة بينهما.
وقال بعضهم: هي أن يطلب الرّجل من المرأة أو وليها أن يتزوّجها، فإذا وافق وليّها تمت الخِطْبة، وكانت بمثابة اتِّفاق مبدئي على أنّها تكون له، ويكون لها( ).
وقال آخرون: الخِطْبة ـ بكسر الخاء ـ: ما يورد من الخُطب في استدعاء النِّكاح، والإجابة إليه، وهو في غير ذلك: الخُطْبة ـ بضم الخاء ـ.
قال أبو إسحاق الزجاج: «الخِطبة ـ بكسر الخاء ـ: ما يجري من المراجعة والمحاولة للنكاح؛ لأنه أمر غير مقدور، ولا يتعيَّن له أول ولا آخر؛ لأن هذا اللّفظ قد يستعمل في كل ما يستدعى به النِّكاح من القول، وإن لم يكن مؤلَّفاً على نظم الخطب، فيقال: فلان يخطب فلانة، إذا استدعى نكاحها، وإن لم يوجد منه لفظ يسمى خُطْبة»
ويدلّ على ما ذهب إليه أبو إسحاق الزّجاج: قوله :
(لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه). متفق عليه.
ولم يعن بالخطبة: الكلام المؤلف الذي يؤتى به عند انعقاد النِّكاح، وإنما أراد ما يتراجع به القول عند محاولة ذلك ومراوضته( ).
وفي «المغني والشرح الكبير»: الخِطْبة ـ بكسر الخاء ـ خطبة الرجل المرأة لينكحها، وبالضم: هي حمد الله والتشهد( ).
معنى الخطبة ـ بضم الخاء ـ اصطلاحاً:
الخُطْبة ـ بضم الخاء ـ ما يقال في الجمعة والعيد والحج، وما يقال بين يدي العقد، ومن ذلك ما رُوي عن النبي وهي:
(الحمد لله نحمده ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً﴾ [النساء: 1].
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ [آل عمران: 102].
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما﴾) [الأحزاب: 70-71].
آراء الفقهاء في الخُطْبة:
وهذه الخطبة مندوبة عند أبي حنيفة ومالك، ومسنونة عند الشافعي وأحمد.
والمالكية قالوا: الخطبة مندوبة من أربعة:
الأول: الزوج، أو وكيله عند التماس الزواج.
الثاني: ولي أمر الزوجة، أو وكيلها، فيندب له أن يرد على الزوج في هذا المقام بخطبة.
الثالث: ولي المرأة، أو وكيلها عند العقد.
الرابع: الزوج، أو وكيله عند القبول.
والشافعية قالوا: للخاطب أن يخطب خطبتين:
إحداهما: عند طلب المخطوبة.
والأخرى: قبل العقد.
كما يُسَن للولي أن يخطب عند إجابته( ).
وهذا ليس بواجب عند أحد من أهل العلم إلا داود الظاهري، فإنه أوجبها [أي: الخُطبة ـ بضم الخاء]؛ لأنه اعتبرها شرطاً في النِّكاح.
ومِمَّا يدلّ على أنّ هذه الخُطْبة ليست واجبة: أنّ رجلاً قال للنبي : يا رسول الله، زَوِّجْنيها، فقال:
(زَوَّجْتُكها بما معك من القرآن).
ولم يَذْكُر خُطْبة.
وخُطب إلى عمر مولاة له، فلم يزد على أن قال: «أنكحناك على ما أمر الله، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان».
وقال جعفر بن محمد عن أبيه: «إن كان الحُسَيْن لَيُزَوِّج بنات الحسن، وهو يتعرَّق العرق» رواهما ابن المنذر.
وروى أبو داود بإسناده عن رجل من بني سُليم، قال: خطبت إلى رسول الله أُمَامة بنت عبد المطلب فأنكحني من غير أن يتشهَّد.
ولأنه عقد معاوضة، فلم تَجِب فيه الخطبة كالبيع.
وما استدلُّوا به يدُلّ على عدم الكمال بدون الخطبة.
ولعلّ ما استدلوا به قول الرسول :
(كلُّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع).
قال الألباني في «إرواء الغليل» (1/30): ضعيف.
وقوله : (كلُّ خطبة ليس فيها شهادة، فهي كاليد الجذْماء)( ).
أخرجه أبو داود في سننه رقم (4841)، والترمذي في الجامع برقم (1106)، وقال: «حسن غريب» اهـ.
وصححه العلامة الألباني في «صحيح أبي داود».
وقال الحافظ في «الفتح» (1/10) عن هذين الحديثين: «في كلّ منهما مقال».
الفصل الثاني: في صفة المرأة المخطوبة
المبحث الأول: في صفة الخاطب:
بعد أن عرفنا الخطبة ـ بالضم وبالكسر ـ نأتي إلى أمر من الأُمُور المهمة، والتي يجب على ولي المرأة، وكذلك الرّجل أن يهتمّا به جداًّ؛ لأنها صُحْبة تدوم غالباً حتى الممات.
فلذلك يجب على الولي أن يختار لكريمته، أو ابنته، أو من ولاّه الله أمرها، فلا يزَوِّجها إلا لِمَن له دين وخُلُق وشرف، وحسن سمت، فإن عاشرها فبمعروف، وإن سرّحها سرَّحها بإحسان( ).
قال الإمام الغزالي في «الإِحْياء»( ):
والاحتياط في حقِّها أهم؛ لأنها رقيقه بالنِّكاح، لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال, ومهما زوّج ابنته أو غيرها مِمَّن ولاّه الله أمرها ظالماً، أو فاسقاً، أو مبتدعاً، أو شارب خمر، فقد جنى على دينه، وتعرَّض لسَخَط الله؛ لِما قطع من الرّحم وسوء الاختيار.
قال رجل للحسن بن علي: إن لي بنتاً، فَمَن ترى أن أُزَوِّجَها له؟ قال: «زَوِّجْها لمن يتقي الله، فإن أحَبَّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلِمْها».
وقالت عائشة رضي الله عنها: «النِّكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته».
وقال :
(مَن زَوَّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها)
رواه ابن حبان في «الضعفاء» من حديث أنس، ورواه الثِّقات من قول الشَّعْبي بإسناد صحيح.
قال ابن تيمية: «ومن كان مُصِراًّ على الفسوق لا ينبغي أن يزوج»( ).
المبحث الثاني: صفة المرأة المخطوبة
قال العلماء: ينبغي أن يكون في المرأة المخطوبة صفات، نوردها إجمالاً، ثم نفصِّل ذلك بالأدلة من الأحاديث المأثورة عن الحبيب ، فمن هذه الصِّفات:
• أن تكون ولوداً.
• أن تكون أصغر منه سناًّ.
• أن تكون أقل منه جاهاً.
• أن تكون أقل منه مالاً.
• أن تكون أقل منه حَسَباً.
• أن تكون في بيئة كريمة.
إلى غير ذلك من الصِّفات التي يستحسن وجودها في المخطوبة، وإليك أخي المسلم تفصيل ذلك:
عن أنس بن مالك أن النبي كان يأمر بالباءة، وينهى عن التَّبَتُّل نهياً شديداً، ويقول:
(تزوَّجوا الودود الولود، فإني مكاثرٌ بكم الأُمَم يوم القيامة).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال:
(أنكحوا أمهات الأولاد، فإني أباهي بكم الأُمَم يوم القيامة) رواهما أحمد.
وعن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تَلِد، أفأتزوجها؟ قال: (لا)، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال:
(تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثرٌ بكم) رواه أبو داود والنسائي.
معاني المفردات التي وردت في الأحاديث:
التبَتُّل: هو في الأصل: الانقطاع، والمراد به هنا: الانقطاع عن النِّكاح، وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة.
والولُود: كثيرة الولَد.
والودود: لما هي عليه من حُسْن الخُلُق، والتَّودُّد إلى الزوج، وهو فَعُول بمعنى: مَفْعُول.
والمكاثرة يوم القيامة: إنما تكون بكثرة أمَّته .
وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على مشروعية النِّكاح، ومشروعية أن تكون المنكوحة ولوداً. اهـ.
وعن جابر أن النبي قال له: (يا جابر، تزوّجت بكراً أم ثيباً؟) قال: ثيِّباً، فقال: (هلاّ تزوجت بكراً، تلاعبها، وتلاعبك؟) رواه الجماعة.
وهناك عبارات أخرى جاءت في لفظ الحديث، مثل: «تضاحكها، وتضاحكك»، و«تداعبها، وتداعبك».
وعن أبي هريرة عن النبي قال:
(تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولِحَسَبها، ولِجَمالها، ولِدينها؛ فاظفر بذات الدين تَرِبَت يداك) رواه مسلم، والترمذي وصححه.
فيه دليل على استحباب نكاح الأبكار، إلا لمقتضٍ لنكاح الثيب، كما وقع لجابر ، فإنه قال للنبي ـ لَمَّا قال له ذلك ـ: «هَلَك أبي وترك سبع نسوة بنات، فتزوجت ثيباً كراهة أن أجيئهن بمثلهن» فقال:
(بارك الله لك) هكذا في البخاري في النفقات.
وفي رواية له ذكرها في المغازي من «صحيحه»: «كُنّ لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن، وتمشطهن» قال: (أصبت).
معاني المفردات التي وردت في الأحاديث أعلاه:
البكر: هي التي لم توطأ. والثيب: هي التي وطئت.
قوله: «تلاعبها، وتلاعبك» رواية للبخاري في النفقات. و«تضاحكها وتضاحكك» كذلك.
وفي رواية لأبي عبيد: «تداعبها وتداعبك» بالدال المهملة، مكان اللام.
قوله: «تنكح المرأة لأربع» أي: لأجل أربع.
قوله: «لِحَسَبها» بفتح الحاء، والسين المهملة، بعدها باء مُوَحّدة، أي: شرفها، والحَسَب في الأصل: الشرف بالآباء، وبالأقارب، مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عددوا مناقبهم، ومآثر آبائهم وقومهم، وحسبوها، فيحكم لمن زاد عدده على غيره.
وقيل: المراد بالحسب هاهنا: الأفعال الحسنة.
وقيل: المال، وهو مردودٌ بذكره فيه.
ويؤخذ من الحديث الشريف: استحباب أن يتزوج نسيبة؛ إلا أن تعارض نسيبة غير دينة، وغير نسيبة دينة، فتقدم ذات الدين، وهكذا في كلّ الصفات.
وأما ما أخرجه أحمد والنسائي وصحّحه ابن حبان والحاكم من حديث بريرة (أنّ أحساب أهل الدّنيا الذي يذهبون إليه: المال)، فقال الحافظ: يحتمل أن يكون المراد أنه حسب من لا حسب له، فيقوم النسب الشريف لصاحبه، مقام المال لمن لا نسب له.
ومنه حديث سمرة رفعه: الحسب: المال، والكرم: التقوى. أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم.
قوله: وجمالها، يؤخذ منه استحباب نكاح الجميلة، ويلحق بالجمال في الذات: الجمال في الصِّفات.
قوله: «فاظفر بذات الدين» فيه دليل على أن اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمع نظره في كل شيء، لا سيما فيما تطول صحبته، كالزوجة، وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه، والبزار، والبيهقي رفعه:
(لا تَزَوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يُرْدِيهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولَأَمة سواداء ذات دين أفضل).
ولهذا قيل: إن معنى الحديث: الإِخْبار منه بما يفعله الناس في العادة؛ فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم: ذات الدين، فاظْفَرْ أيها المسترشد بذات الدين.
قوله: «تَرِبَت يداك» أي: لصقت بالتراب، وهي كناية عن الفقر.
قال الحافظ: «هو خبر بمعنى الدّعاء، لكن لا يُراد حقيقته، قال القرطبي: معنى الحديث: أن هذه الخصال الأربع هي التي يُرْغب في نكاح المرأة لأجلها، فهو خبر عما في الوجود من ذلك، لاَ أنه وقع الأمر به، بل ظاهره إباحة النكاح لقصد كلٍّ من ذلك.
ورد ذلك في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار/ لمحمد بن علي الشوكاني، المتوفى سنة 1255هـ، الجزء (6) ص (111-113).
وأيضاً ورد في صفة المرأة التي يستحب خطبتها أحاديث أُخَر، أذكر أقربها لموضوع البحث:
عن عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، زوج النبي ، وابنة حِبِّه أبي بكر قالت: قلت يا رسول الله، أرأيت لو نـزلت وادياً، وفيه شجرة قد أُكِل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها، فأيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: في التي لم يرتع منها، تعني: أنّ رسول الله لم يتزوّج بكراً غيرها( ).
وقال :
(عليكم بالأبكار، فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير) رواه ابن ماجه في «السنن» وغيره.
ويندب أن تكون المرأة أقل من الرجل سناًّ؛ لئلا تكبر بسرعة، فلا تلد، والغرض الصحيح من الزواج إنما هو التناسل الذي به تكثر الأمة، ويعز جانبها.
ويندب أن تكون أقل منه في الجاه، والعز، والرفعة، والمال؛ لأنّ الرِّجال قوامون على النساء، حافظون لهن، فإذا لم يكن الرجل أعز جاهاً، وأكثر مالاً لا تخضع المرأة له، فلا يستطيع صيانتها، ولهذا قال الرسول :
(من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلاًّ، ومن تزوجها لمالها لم يزد مالها إلا فقراً، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة لم يرد إلا أن يغض بصره، ويحصن فرجه، أو يصل رحمه، بارك الله له فيها، وبارك لها فيه).
ويندب أن تكون المخطوبة أحسن منه خلقاً، وأدباً، وورعاً، وجمالاً، والأحسن أن تكون بكراً كما تقدم ذلك في حديث جابر حينما قال له رسول الله :
(هلا بكراً تلاعبها، وتلاعبك)( ).
ومن المزايا التي ينبغي وجودها في المرأة المخطوبة: أن تكون من بيئة كريمة، معروفة باعتدال المزاج، وهدوء الأعصاب، والبعد عن الانحرافات النفسية؛ فإنها بذلك تكون أجدر رعاية لحق زوجها، وحُنُواًّ على ولدها، فإن رسول الله خطب أم هانئ فاعتذرت إليه بأنها صاحبة أولاد، فقال:
(خير نساء ركبْن الإبل صالح نساء قريش، أحناه( ) على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده).
وفي الحديث:
(إياكم وخضراء الدِّمن) قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: (المرأة الحسناء في المنبت السوء).
والمراد بالمرأة الحسناء في المنبت السوء: المرأة الجميلة المنحدرة من أسرة خبيثة.
قال البيروني في «أسنى المطالب»: «معناه: احذروا المرأة الحسناء، ومنبتها سوء، كالشجرة الخضراء من كثرة الزبل على أصلها».
وقال الدمياطي في «إعانة الطالبين»: «شبه المرأة التي أصلها رديء بالقطعة من الزرع المرتفعة على غيرها التي منبتها موضع روث البهائم».
درجة الحديث:
هذا الخبر ليس له سندٌ ثابت، وهو معدود عند أئمة الحديث من الأحاديث المنكرة، رواه الخطيب في «تلخيص المتشابه» (2/509)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (2/96)، والرامهرمزي في «أمثال الحديث» (1/120) وغيرهم من طريق محمد بن عمر المكي ـ المعروف بالواقدي ـ عن يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله قال:
(إياكم وخضراء الدِّمن) فقيل: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: (المرأة الحسناء في منبت السوء).
وجاء الخبر من مسند عبد الملك بن محمد الأنصاري، ذكره ابن أبي حاتم ـ رحمه الله تعالى ـ في الجرح والتعديل (4/139) فقال: سليمان بن محمد التيمي روى عن عبد الملك بن محمد الأنصاري ، قال: قال النبي :
(إياكم وخضراء الدِّمن) فذكره، ولم يحكم عليه بشيء.
ومحمد بن عمر ـ هو الواقدي ـ وثّقه جماعة، وضعّفه الأكثرون، وهو الصواب فلا يُحْتج بشيء من حديثه، قال عنه الإمام أحمد في رواية: كذاب، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. [الكامل لابن عدي (6/241)].
وقال مسلم: متروك الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وقال أبو زرعة: ترك الناس حديثه.
وقال الدّارقطني: غريب من حديث أبي وجزة، يزيد بن عُبَيْد، عن عطاء، تفرّد به الواقدي، عن يحيى بن سعيد بن دينار عنه. [أطراف الغرائب والأفراد لابن طاهر (5/78)].
ونقل الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (3/145) عن ابن طاهر، وابن الصلاح أنّهما قالا: يُعَدّ في أفراد الواقدي. وقال الدارقطني: لا يصح من وجه.
وقال ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/179): «رواه الواقدي من رواية أبي سعيد الخدري، وهو معدود من أفراده، وقد عُلِم ضعفه.
وذكره العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/387) وعزاه الدارقطني في الأفراد، والرامهرمزي في «الأمثال».
قال الرامهرمزي: «وقد جاء هذا مفسّراً، ومعنى ذلك: أنّ الريح تجمع الدِّمن، وهي البعر ـ في المكان من الأرض، ثم يركبه السّاقي، فينبت ذلك المكان نبتاً ناعماً غضاًّ، فيروق بحسنه وغضارته، فتجيء الإبل إلى الموضع، وقد أعْيَت، فرُبَّما أكلته الإبل، فتمرض، يقول: لا تنكحوا المرأة لجمالها، وهي خبيثة الأصل؛ لأن عرق السوء لا ينجب معه الولد.
وقال الشاعر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا
والخلاصة:
أنه يجوز الزواج من المرأة التي ترجع إلى أصل خبيث، وقد ضعّف أهل العلم الحديث الوارد في النهي عن الزواج من خضراء الدّمن، كما تقدم.
واعلم أنّ معيار الفضل عند الله تعالى هو التقوى والعمل الصالح، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو غيرهما، قال تعالى: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ [الحجرات: 13] .
كما أنّ رسول الله بيّن المعايير التي ينبغي اختيار الزوجة على أساسها، حيث قال:
(تُنْكَح المرأة لأربع: لِمَالِها، ولِحَسَبِها، وجمالِها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبت يداك) متفق عليه.
ولم نقف على دليل من السيرة النبوية يخص هذه المسألة الأخيرة، وفي هذا الحديث الشريف كفاية، فالمرأة التي ترجع إلى أصل سيئ إذا كانت متَّصفة بالاستقامة على دين الإسلام، لا يضرّها ما بأصلها من خُبْث؛ لقوله تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ [الزمر: 7].
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله قال في حجة الوداع:
(ألا لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده) قال الشيخ الألباني يرحمه الله: صحيح.
وروى أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي ، ثم إن رسول الله قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: أي ورب الكعبة، قال: حقا؟ قال: أشهد به، قال: فتبسم رسول الله ضاحكاً من ثبت شبهي في أبي، ومن حلف أبي علي، ثم قال: أَمَا إنّه لا يجني عليك، ولا تجني عليه، وقرأ رسول الله : ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾.
قال الشيخ الألباني: صحيح. والله أعلم.
ويضع الإسلام تحديداً للمرأة الصالحة، وأنّها الجميلة المطيعة البارة الأمينة، فيقول:
(خير النساء من إذا نظرت إليها سرَّتْك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا أقسمت عليها أبرّتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك). رواه النسائي وغيره بسند صحيح( ).
الفصل الثالث
وفيه مبحثان:
الأول: التصريح والتعريض.
الثاني: هل يجوز خطبة المرأة المعتدة من وفاة، أو المطلقة الرجعية، أو المطلقة طلاقاً بائناً، وهل يجوز خِطْبة المرأة المخالعة من زوجها؟
المبحث الأول:
قال العلماء: للخطبة طريقان في عرضها: التصريح، والتعريض.
فأوّلا نتعرّف على التصريح، فقالوا:
التصريح: ما كان بعبارة صريحة، لا تحتمل غير طلب الزواج من المرأة المقصودة، كأن يقول للمرأة التي يريد التزوج بها: إني أريد أن أتزوجك، أو: إني أريد التزوج من فلانة، إذا كان العرض على أهلها.
والتصريح كذلك أن يقول: إذا انقضت عدّتك تزوجتك، أو ما أشبه ذلك.
ومثله أن يقول: تزوجيني إذا حللت، أو أنا أتزوجك إذا حللتي، وما أشبه ذلك.
أما التعريض فهو خلاف التصريح، مأخوذ من العَرْض، وهو الجانب، وهو ما كان بعبارة لا تدلّ على الخطبة، ولكن يفهم من عرضها وجانبها قصد الخطبة بالقرائن والأحوال، كأن يقول الرجل لمن يريدها زوجة: إنك مهذبة، أو وددت لو يسر الله لي زوجة صالحة، أو إن الله لسائق إليك خيراً، وما إلى ذلك من العبارات التي تفهم منها الخطبة تعريضاً وتلميحاً، مثل: رُبّ راغب فيك، أو أنت جميلة، أو أنت مرغوب فيك، أو رُبّ متطلِّع إليك، وإنك لكما تحبين، وإني عليك لحريص ... وغيرها كثير.
المبحث الثاني: في خطبة المعتدة والمطلقة عن رجعة، والمطلقة طلاقاً بائناً، والمخالعة:
قال صاحب المجموع( ):
«ويجوز التعريض بخطبة المعتدة عن الوفاة والطلاق الثلاث؛ لقوله تعالى: ﴿ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم﴾ [البقرة: 235].
ولِما روت فاطمة بنت قيس أن أبا جعفر بن عمرو طلّقها ثلاثاً، فأرسل إليها ( لا تسبقيني بنفسك) فزوجها بأسامة .
ويحرم التصريح بالخطبة؛ لأنّه لما أباح التعريض دلّ على أنّ التصريح محرم، ولأنّ التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح فتخبر بانقضاء العدة.
والتعريض يحتمل غير النكاح، فلا يدعوها إلى الإخبار بانقضاء العدة.
وإن خالعها( ) زوجها فاعتدت لم يحرم على الزوج التصريح بخطبتها؛ لأنه يجوز له نكاحها، فهو معها كالأجنبي مع الأجنبية في غير العدة.
ويحرم على غيره التصريح بخطبتها؛ لأنها محرمة عليه.
وهل يحرم التعريض؟ فيه قولان للعلماء:
الأول: يحرم؛ لأن الزوج يملك أن يستبيحها في العدة، فلم يجز لغيره التعريض بخطبتها كالرّجعية.
الثاني: لا يحرم؛ لأنّها معتدة بائن، فلم يحرم التعريض بخطبتها كالمطلقة ثلاثاً، والمتوفى عنها زوجها، والمرأة في الجواب كالرجل في الخطبة فيما يحل ويحرم؛ لأن الخطبة للعقد، فلا يجوز أن يختلفا في تحليله وتحريمه.
قال مجاهد: مات رجل وكانت امرأته تتبع الجنائز، فقال لها رجل: لا تسبقينا بنفسك، فقالت: قد سبقك غيرك.
ويكره التعريض بالجماع؛ لقوله تعالى: ﴿ولكن لا تواعدوهن سراًّ﴾ [البقرة: 235] وفسّر الشافعي ـ رحمه الله ـ السر بالجماع، فسماه سراًّ؛ لأنه يفعل سراًّ، وأنشد قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
فمعنى السر في بيت الشعر: الجماع، فهذا هو الذي يقصده الشاعر، فلذلك استشهد به الشافعي ـ رحمه الله ـ.
وخلاصة القول: أن الخاطب يحرم عليه التصريح لذوات العدد (بكسر العين) بالزواج، ولا بأس بالتعريض. والله أعلم بالصواب.
الفصل الرابع:
في شروط جواز الخطبة
لا تباح خطبة امرأة إلا إذا توافر فيها شرطان:
الأول: أن تكون خالية من الموانع الشرعية التي تمنع زواجه منها في الحال.
الثاني: أن لا يسبقه غيره إليها بخطبة شرعية.
فإذا كان ثمت موانع شرعية كأن تكون محرمة عليه بسبب من أساب التحريم المؤبد، كالأخت والعمة والخالة والأخت من الرضاعة، أو بسبب من أسباب التحريم المؤقت، مثل: أخت الزوجة ما دامت الزوجية قائمة بينهما، والخامسة لمن كان تحته أربع نسوة، وزوجة الغير أيضاً، فإن كل هؤلاء يحرم على المسلم التزوج بهن أثناء الخطبة، فتكون الخطبة محرمة كذلك.
هذا فضلا عما في خطبة ذات الزوج من الاعتدء على حق زوجها، وإفساد الحياة الزوجية بينهما، ناهيك عما ينشأ من وراء ذلك من العداوة والبغضاء أساس الشرور.
وكذلك يحرم خطبة المشغولة بأثر زواج الغير، وهي المعتدة.
حكم خطبة معتدة الغير:
فتحرم خطبة معتدة الغير، سواء أكانت عدتها عدة وفاة أم عدة طلاق، وسواء أكان الطلاق رجعياًّ أم بائناً.
فإن كانت معتدة من طلاق رجعي حرُمت خطبتها؛ لأنها لم تخرج عن عصمة الزوج، وله مراجعتها في أي وقت شاء، وقبل انتهاء العدة.
وإن كانت معتدة من طلاق بائن بينونة صغرى، حرُمت خطبتها بطريق التصريح، إذْ حق الزوج لا يزال متعلِّقاً بها، وله حق إعادتها بعقد جديد ، ففي تَقَدُّم رجل آخر لخطبتها اعتداء عليه، واختلف العلماء في التعريض بخطبتها، والصحيح جوازه.
وإن كانت معتدة من وفاة، فإنه يجوز التعريض لخطبتها أثناء العدة دون التصريح؛ لأن صلة الزوجية قد انقطعت بالموت، أي: موت الزوج، فلم يبق للزوج حق يتعلق بزوجته التي مات عنها، إلا ما كان مما يتعلق بمعنى الآية ﴿ولا تنسوا الفضل بينكم﴾ [البقرة: 235].
وإنما حرم خطبتها بطريق التصريح؛ رعايةً لحزن الزوجة وإحدادها، هذا من جانب، ومن جانب آخر: محافظة على شعور أهله من والد أو والدة، وأهل وعشيرة، وورثته كذلك.
قال الله تعالى: ﴿ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سراًّ إلا أن تقولوا قولاً معروفاً، ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، واعلموا أن الله غفور حليم﴾ [البقرة: 235]. وإليكم تفسير الآية بإختصار
ولا إثم عليكم ـ أيها الرِّجال ـ فيما تُلَمِّحون به من طلب الزواج بالنساء المتوفَّى عنهن أزواجهن، أوالمطلقات طلاقاً بائناً في أثناء عدتهن، ولا ذنب عليكم أيضاً فيما أضمرتموه في أنفسكم من نية الزواج بهن بعد انتهاء عدتهن. علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدات، ولن تصبروا على السكوت عنهن، لضعفكم؛ لذلك أباح لكم أن تذكروهن تلميحاً إو إضماراً في النفس، واحذروا أن تواعدوهن على النّكاح سراًّ بالزنى، أو الاتفاق على الزواج في أثناء العدة، إلا أن تقولوا قولاً يُفْهم منه أن مثلها يُرْغَبُ فيها الأزواج، ولا تعزموا على عقد النكاح في زمان العدة حتى تنقضي مدتها. واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فخافوه، واعلموا أن الله غفور لمن تاب من ذنوبه، حليم على عباده لا يعجل عليهم بالعقوبة.
والهديّة للمعتدة جائزة ، وهي من التعريض، وجائز أن يمدح نفسه، ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين.
قالت سُكَيْنَة بنت حنظلة: استأذن (علي بن محمد) عَلَيَّ، ولم تنقض عدّتي من مهلك زوجي، فقال: قد عرفتي قرابتي من رسول الله ، وقرابتي من (علي)، وموضعي في العرب. قلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، وتخطبني في عدتي؟ قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله ومن (علي).
وقد دخل رسول الله على أمّ سلمة، وهي متأيّمة من أبي سلمة فقال:
(لقد علمت أني رسول الله وخيرته، وموضعي في قومي) وكانت تلك خطبة. رواه الدارقطني.
وخلاصة الآراء: أن التصريح حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح للبائن، وللمعتدة من وفاة، وحرام في المعتدة من طلاق رجعي.
وإذا صرح بالخطبة في العدة، ولكن لم يعقد إلا بعد انقضاء العدة، فقد اختلف العلماء في ذلك:
قال مالك: يفارقها، دخل بها أو لم يدخل بها.
وقال الشافعي: صح العقد، وإن ارتكب النهي الصريح المذكور؛ لاختلاف الجهة.
واتفقوا على أنّه يفرق بينهما لو وقع العقد في العدة ودخل بها.
وهل تحل له بعد أم لا؟
قال مالك والليث والأوزاعي: لا يحل له زواجها بعدُ.
وقال جمهور العلماء: بل يجوز له، إذا انقضت العدة أن يتزوجها، إذا شاء ذلك( ).
الخطبة على الخطبة، وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل القادم ـ إن شاء الله
الفصل الخامس
في حكم الخطبة على خطبة الغير
لقد حفظ الإسلام حق المسلم على المسلم، ومنه هذا الأدب الإسلامي الرفيع، وهو عدم الخطبة على خطبة الغير حتى يدع؛ لأنّ فعل ذلك فيه إيغار للصدور، وقد يبعث على البغض والكره للآخر.
روى الشافعي ـ رحمه الله ـ من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال:
(لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه). متفق عليه.
وروى أيضاً من طريق ابن عمر أن رسول الله نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك. متفق عليه
فكان الظاهر من هذين الحديثين أنّ من خَطَب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يأذن الخاطب، أو يدع الخطبة، وكانت محتملة لأن يكون نهي النبي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه في حال دون حال، فوجدنا سنة النبي تدلّ على أنه إنما نهى في حال دون حال.
وروى أيضاً من طريق مالك عن سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أنّ زوجها طلّقها، فبتّها، فأمرها النبي أن تعتدّ في بيت أم مكتوم، وقال: (فإذا حللت فآذنيني)، قالت: فلما حللت أخبرته أن أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال رسول الله :
(أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأمّا معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة) فكرهت، فقال: (أنكحي أسامة) فنكحته، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به.
قال الشافعي: فكان بيِّناً أنّ الحال التي خطب فيها رسول الله فاطمة على أسامة غير الحال التي نهى عن الخطبة فيها، ولم يكن للمخطوبة حالان مختلفي الحكم إلا بأن تأذن المخطوبة بإنكاح رجل بعينه، فيكون للولي أن يزوجها، وليس لأحد أن يخطبها في هذه الحال حتى يأذن الخاطب أو يترك خطبتها، وهذا بيِّن.
وقد أعلمت فاطمة رسول الله أن أبا جهم ومعاوية خطباها، ولا شكّ ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ خطبة أحدهما بعد خطبة الآخر، فلم ينههما، ولا واحداً منهما، ولم نعلمه أنها أذنت في واحد منهما، فخطبها على أسامة، ولم يكن ليخطبها في الحال التي نهى فيها عن الخطبة، ولم أعلمه نهى معاوية ولا أبا جهم عمّا صنعا، والأغلب أنّ أحدهما خطبها بعد الآخر، فإذا أذنت المخطوبة في إنكاح رجل بعينه لم يجز خطبتها في تلك الحال، وإذن الثيب: الكلام، والبكر: الصمت، وإن أذنت بكلام، فهو إذن أكثر من الصمت.
قال: وإذا قالت المرأة لوليِّها: زوجني مَن رأيت، فلا بأس أن تخطب في هذه الحال؛ لأنها لم تأذن في أحد بعينه.
فإذا أمرت في رجل، فأذنت فيه، لم يجز أن تخطب، وإذا وعد الولي رجلاً أن يزوجه بعد رضا المرأة لم يجز أن تخطب في هذه الحال، فإن وعده ولم ترض المرأة فلا بأس أن تخطب إذا كانت المرأة ممن لا يجوز أن تزوج إلا بأمرها.
وأمر البكر إلى أبيها، والأمة إلى سيدها.
فإذا وعد أبو البكر، أو سيد الأمة رجلاً أن يزوجه، فلا يجوز لأحد أن يخطبها.
ومن قلت لا يجوز له أن يخطبها فإنما أقوله إذا علم أنها خطبت وأذنت.
وإذا خطب الرجل في الحال التي نهى أن يخطب فيها عالماً، فهي معصية، يستغفر الله تعالى منها، وإن تزوجت بتلك الخطبة فالنكاح ثابت؛ لأن النكاح حادث بعد الخطبة، وهو مما وصفت من أن الفساد إنما يكون بالعقد لا بشيء تقدمه وإن كان سببا له لأن الأسباب غير الحوادث بعدها( ).
لا يحل لمسلم أن يخطب على خطبة مسلم سواء ركنا وتقاربا أو لم يكن شئ من ذلك إلا أن يكون أفضل لها في دينه وحسن صحبته فله حينئذ أن يخطب على خطبة غيره ممن هو دونه في الدين وجميل الصحبة أو إلا أن يأذن له الخاطب الاول في أن يخطبها فيجوز له أن يخطبها حينئذ أو إلا أن يدفع الخاطب الاول الخطبة فيكون لغيره أن يخطبها حينئذ أو إلا أن ترده المخطوبة فلغيره أن يخطبها حينئذ وإلا فلا.
قال أبو محمد( ):
«وأما إذا ردته المخطوبة فقد وجب عليه قطع الخطبة لأن في تماديه الإضرار بها والظلم لها في منعه بذلك غيره من خطبتها فكل خطبة تكون معصية فلا حكم لها وأما إذا كان فوقه في دينه وحسن صحبته فلحديث فاطمة بنت قيس المشهور:
(أن رسول الله قال لها: من خطبك؟) قالت: معاوية ورجل من قريش آخر، فقال لها رسول الله :
(أما معاوية فإنه غلام من غلمان قريش لا شئ له، وأما الآخر فإنه صاحب شر لاخير فيه، أنكحي أسامة. قالت: فكرهته فقال لها ذلك ثلاث مرات فنحكته)»( ).
قال ابن القاسم: «إنما معنى النهي إذا خطب رجل صالح على خطبة رجل صالح، وأما إن كان الاول غير صالح والثاني صالح جاز»( ).
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ:
إذا كان الخاطب الأول ذميا لم تحرم الخطبة على خطبته نص على ذلك، فقال: لا يخطب على خطبة أخيه ولا يساوم على سوم أخيه إنما هو للمسلمين ولو خطب على خطبة يهودي أو نصراني أو استام على سومهم لم يكن داخلا في ذلك لأنهم ليسوا بإخوة للمسلمين.
وقد قال ابن عبد البر لا يجوز أيضا لأن هذا خرج مخرج الغالب لا لتخصيص المسلم به»( ).
قال الخطابى وغيره: ظاهره اختصاص التحريم بما اذا كان الخاطب مسلما، فان كان كافرا فلا تحريم وبه قال الاوزاعى.
وقال الجمهور: تحرم الخطبة على خطبة الكافر أيضا( ).
مسألة: أثر الخطبة على الخطبة في العقد:
لو خطب على خطبته وتزوج والحالة هذه عصى وصح النكاح ولم يفسخ.
وقال داود: يفسخ النكاح.
وعن مالك روايتان كالمذهبين.
وقال جماعة من أصحاب مالك: يفسخ قبل الدخول لا بعده( ).
الفصل السادس:
أحكام رؤية المخطوبة والاختلاط بها
لرؤية المخطوبة قبل العقد أحكام نوردها فيما يلي، كما نورد اختلاف الفقهاء وأدلتهم، وإليك بيان ذلك:
أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي ومالك وأحمد وآخرون: يباح النظر إلى المرأة التي يريد نكاحها.
وقال عياض: وقال الأوزاعي: ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها.
وقال الشافعي وأحمد: وسواء بإذنها أو بغير إذنها إذا كانت مستترة.
وحكى بعضهم تأويلا على قول مالك إنه لا ينظر إليها إلا بإذنها؛ لأنه حق لها، ولا يجوز عند هؤلاء المذكورين أن ينظر إلى عورتها، ولا وهي حاسرة.
وعن داود ينظر إلى جميعها حتى قال ابن حزم يجوز النظر إلى فرجها.
وقال النووي رداًّ على قول داود بالنظر إلى جميع البدن: هذا خطأ ظاهر، منابذ لأصول السنة والإجماع.
وقال العلماء: لا ينظر إليها نظر تلذذ وشهوة ولا لريبة.
وقال أحمد: ينظر إلى الوجه على غير طريق لذة، وله أن يردد النظر إليها متأملا محاسنها، وإذا لم يمكنه النظر استحب أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره؛ لما روى البيهقي من حديث ثابت عن أنس أن النبي أراد أن يتزوج امرأة فبعث بامرأة لتنظر إليها فقال:
(شمي عوارضها وانظري إلى عرقوبيها)( ). الحديث.
وهذا قول من لا يرى النظر إلى المخطوبة.
وقالت طائفة منهم يونس بن عبيد وإسماعيل بن علية وقوم من أهل الحديث: لا يجوز النظر إلى الأجنبية مطلقا إلا لزوجها أو ذي رحم محرم منها، واحتجوا في ذلك بحديث علي أن رسول الله قال:
(يا علي إن لك في الجنة كنـزا، وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى، وليست لك الأخرى). رواه الطحاوي والبزار.
ومعنى لا تتبع النظرة النظرة: أي لا تجعل نظرتك إلى الأجنبية تابعة لنظرتك الأولى التي تقع بغتة، وليست لك النظرة الآخرة لأنها تكون عن قصد واختيار فتأثم بها أو تعاقب.
واحتجوا أيضاً بما رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله قال سألت رسول الله عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
قالوا فلما كانت النظرة الثانية حراما لأنها عن اختيار خولف بين حكمها وحكم ما قبلها إذْ كانت بغير اختيار ـ دل ذلك على أنه ليس لأحد أن ينظر إلى وجه امرأة، إلا أن يكون بينها وبينه من النكاح أو الحرمة.
واحتجت الطائفة الأولى ـ وهي التي ترى جواز النظر إلى المخطوبة بما يلي:
حديث محمد بن مسلمة سمعت رسول الله يقول:
(إذا ألقى في قلب امرىء خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها). رواه الطحاوي وابن ماجه والبيهقي.
وبحديث أبي حميد الساعدي وقد كان رأى النبي قال: قال رسول الله :
(إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة وإن كانت لا تعلم). رواه الطحاوي وأحمد والبزار.
وبحديث جابر قال قال رسول الله :
(إذا خطب أحدكم المرأة فقدر على أن يرى منها ما يعجبه فليفعل). رواه الطحاوي وأبو داود.
وبحديث أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي : (انظر إليها فإن في أعين نساء الأنصار شيئا) ـ يعني الصغر ـ رواه الطحاوي، وأخرجه مسلم وليس في روايته يعني الصغر.
وبحديث المغيرة بن شعبة أنه أراد أن يتزوج امرأة فقال له النبي :
(انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) أخرجه الطحاوي والترمذي وقال: «حديث حسن».
وقال: «معنى قوله: (أن يؤدم بينكما) أي: أحرى أن تدوم المودة بينكما».
وأجابوا عن حديث علي عنه بأن النظر فيه لغير الخطبة فذلك حرام، وأما إذا كان للخطبة فلا يمنع منه؛ لأنه للحاجة، ألا يرى كيف جوز به في الإشهاد عليها ولها، فكذلك النظر للخطبة( ).
ومِمّا يستدل به على جواز النظر إلى المخطوبة قبل التزويج: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله :
(أُرِيتُك في المنام يجيء بك الملَك في سَرَقَة من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب، فإذا أنت هي، فقلت: إن يكُ هذا من عند الله يُمْضه).
قال صاحب الفتح:
«في الاحتجاج بهذا الحديث للترجمة نظر ، لأن عائشة كانت إذ ذاك في سن الطفولة فلا عورة فيها البتة ، ولكن يستأنس به في الجملة في أن النظر إلى المرأة قبل العقد فيه مصلحة ترجع إلى العقد»( ).
قال النووي:
«ومذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور: أنه لا يشترط في جواز هذا النظر رضاها، بل له ذلك في غفلتها، ومِن غير تَقَدُّم إعلام، لكن قال مالك: أكره نظره في غفلتها؛ مخافة وقوع نظره على عورة.
وعن مالك رواية ضعيفة: أنه لا ينظر اليها إلا بإذنها. وهذا ضعيف؛ لأن النبي قد أذن في ذلك مطلقا، ولم يشترط استئذانها. ولأنها تستحي غالبا من الإذن، ولأن في ذلك تغريراً فربما رآها فلم تعجبه فيتركها فتنكسر وتتأذى؛ ولهذا قال أصحابنا: يستحب أن يكون نظره إليها قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء، بخلاف ما إذا تركها بعد الخِطْبة. والله أعلم»( ).
ومِمَّا يُسْتَأْنس به على جواز النظر إلى المخطوبة أيضاً:
حديث سهل بن سعد في البخاري: أن امرأة جاءت رسول الله فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله فَصَعَّد النظر إليها وصَوَّبَه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جَلَسَتْ. فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: (هل عندك من شيء؟) فقال: لا، والله يا رسول الله، قال: (اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا) فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئا قال: (انظر ولو خاتما من حديد) فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري، قال سهل: ما له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله : (ما تصنع بإزارك، إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك شيء) فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام، فرآه رسول الله مُوَلِّياً فأمر به فدُعِي، فلما جاء قال: (ماذا معك من القرآن؟) قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا، عَدَّها، قال: (أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟) قال: نعم قال: (اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن). رواه البخاري.
والشاهد فيه للباب قوله: «فصَعَّد فيها النظر وصوَّبه)
ومما يستدل به كذلك حديث أبي هريرة ، أنّ رجلاً خطب امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله : (أَنَظَرت إليها؟) قال: لا، قال: (فاذهب فانظر إليها، فإنّ في أعْيُن الأنصار شيئاً) قيل: صِغر، وقيل: عمش.
وكذلك حديث المغيرة بن شعبة قال: أتيت النبي فذكرت له امرأة أخطبها، فقال:
(اذهب فانظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما)
قال: فأتيت امرأة من الأنصار، فخطبتها إلى أبويها وأخبرتهما بقول رسول الله فكأنهما كرها ذلك، قال: فسمعتْ ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إنْ كان رسول الله أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فإني أنشدك، كأنها عظمت ذلك عليه، قال: فنظرت إليها، فتزوجتها، فذكر من موافقتها. ابن ماجه في السنن.
وليس الحكم فيما تقدّم مقصوراً على الرجُل، بل هو ثابت للمرأة أيضاً، فلها أن تنظر إلى خاطبها، فإنها يعجبها منه مثل ما يعجبه منها.
قال عمر : لا تزوجوا بناتكم من الرّجل الذميم.
وقال الغزالي في «الإحياء»:
«ولا يستوصف في أخلاقها وجمالها إلا من هو بصير صادق خبير بالظاهر والباطن، ولا يميل إليها، فيفرط في الثناء، ولا يحسدها فيقصر، فالطباع مائلة في مبادئ النكاح، ووصف المنكوحات إلى الإفراط والتفريط، وقَلَّ من يصدق فيه، ويقتصد بل الخداع والإغراء أغلب والاحتياط فيه مهم لمن يخشى على نفسه التشوق إلى غير زوجته».
وبعد أن تعرّفنا على هذا الباب المهم، أقول: بأن الجمهور على أن النظر أصلح لأمر الزوجين، ولدوام العشرة من غير إفراط أو تفريط، وذلك بأن تأتي المخطوبة إلى الخاطب، وهي في لباس الحشمة والستر، وتكون كاشفة عن وجهها، وتقدم له طعاماً، أو شراباً، وينظر إليها، وتنظر إليه، ويكون ذلك بحضور المحرم، مثل: الأب أو الأخ أو العم أو الخال، أو مَن تحرم عليه المرأة بنسب أو سبب، ثم بعد ذلك تخرج. اهـ
حكم الاختلاط قبل العقد:
وأمّا عن الاختلاط فقد درج كثير من الناس على التهاون في هذا الشأن، فأباح لابنته أو قريبته أو من ولاه الله أمرها أن تخالط خطيبها وتخلو معه دون رقابة، وتذهب معه حيث يريد من غير إشراف.
وقد نتج عن ذلك أن تعرضت المرأة لضياع شرفها وفساد عفافها وإهدار كرامتها.
وقد لا يتم الزواج فتكون قد أضافت إلى ذلك فوات الزواج منها.
وعلى النقيض من ذلك: طائفة جامدة لا تسمح للخاطب رؤية البنت المخطوبة، وتأبى إلا أن يرضى بها، ويعقد عليها دون أن يراها أو تراه إلا ليلة العُرْس.
وقد تكون الرؤية مفاجئة لهما غير متوقعة، فيحدث ما لم يكن في الحسبان، وما لم يكن مقدوراً عليه من الشقاق والفرا
خطبة النساء
في الإسلام
2010م يناير محرم 1431هـ/
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
قال الله تعالى: ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ [الروم: 21]
الإهداء
إلى كل مسلم ومسلمة يريد أن يتزوج على منهج الله وسنة رسوله ،
إلى الأولياء،
إلى الفتى والفتاة،
إلى مَن يرغب في إكمال دينه، كما قال (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف دينه، فليتق الله في النصف الآخر) رواه البيهقي في كتاب شعب الإيمان، فصل في الترغيب في النكاح.
أُهدي هذا الكتاب، عسى أن ينفع الله به، فيجد فيه بغيته قبل أن يقدم على الخطبة المباركة، ثم الزواج الذي من أهدافه: إعمار الأرض بِمَن يعبد الله وحده لا شريك له.
والله ولي التوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، المنـزل عليه قوله تعالى: ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ [الروم: 21]، والقائل فيما رواه الإمام أحمد (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومَن نَهج منهجهم، وترسم خطاهم إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فقد تقدمت بهذا البحث إلى كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة قبل ثلاثة عقود من الزمان، ثم رأيت أن أقدمه إلى القارئ في هذه الأيام، عسى أن يكون فيه النفع والفائدة؛ راجياً من الله تعالى التوفيق والسداد، والقبول في القول والعمل، فما كان فيه من صواب فمن الله تعالى، فهو الموفق والمعين، وما كان فيه من خطأ وتقصير فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأستغفر الله العظيم من الخطأ والتقصير.
وقد جمعت هذا البحث من كتب السلف الصالح رحمهم الله، وغفر لهم، وأجزل لهم الأجر والمثوبة، وتوخيت فيه سهولة العبارة، ووضوح الأسلوب، وصحة المعلومة؛ كي يتمكن المطلع عليه من فهمه، والحصول على المعلومة التي يريدها بسهولة ويسر، فأرجو الله تعالى أن ينال هذا البحث رضى الجميع.
والحمد الله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النِّعمة، وجعلنا مسلمين.
وقد قسمت البحث إلى ثمانية فصول:
الفصل الأول: التعريف، فقد عرّفت الخطبة في اللغة والشرع، وذكرت الفرق بين الخِطبة ـ بكسر الخاء ـ والخُطْبة ـ بضم الخاء.
الفصل الثاني: الصِّفات التي تكون في المخطوبة، فقد ذكرت في هذا الفصل أن الإسلام رغّب في أن تكون المخطوبة بِكْراً، ومستقيمة، ومِن أهل دين وتقى، ومِمّن عُرِفوا بالنّسل الطّيِّب؛ لأنه الأساس من الزواج.
الفصل الثالث: طرق الخطبة، وقد قلت فيه: إن للخِطبة طريقين، هما: التعريض والتصريح.
فالتعريض: ما كان بعبارة لا تدلّ على الخِطبة، ولكن يُفْهم منها قصد الخطبة بالقرائن والأحوال.
والتصريح: ما كان بعبارة صريحة، وقد فصلت ذلك في موضعه.
الفصل الرابع: شروط جواز الخِطْبَة، وقد قلت فيه: إنّ للخطبة شرطين لا تصح إلا بهما، وهما:
1- أن تكون خالية من الموانع الشرعية التي تمنع زواجه منها في الحال.
2- أن لا يسبقه غيره إليها بخطبة شرعية.
الفصل الخامس: حكم الخِطْبة على خِطْبة الغير، وقد تَوَّجْت هذا الفصل بقول الرسول :
(لا يخطب أحدكم على خِطْبَة أخيه حتى ينكح أو يترك) متفق عليه.
وقد فصّلت ذلك في مكانه.
الفصل السادس: حكم رؤية المخطوبة والاختلاط، والخلوة، وقد بينت اختلاف العلماء في هذا، ووضحته في موضعه.
الفصل السابع: عادات وتقاليد الأمم والشعوب في الخِطبة، تجد تفصيل ذلك في موضعه من البحث.
الفصل الثامن: حكم من عدَل عن مخطوبته.
والخطبة ـ كما سيأتي ـ: «مقدّمة تسبق عقد النكاح» أو هي: «عبارة عن وعد بالزواج»، وقد يكون في هذه الفترة التي تسبق العقد الشرعي الكثير من الهبات والهدايا من الخاطب أو المخطوبة، فما حكم ذلك؟ تجد الجواب في مكانه من البحث. : ثم السيرة الذاتية :
والله أسأل أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعنا ومن يقرأ هذا البحث، بما فيه من مادة علمية، وأن يوفق المسلمين لما فيه سعادتهم، في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً﴾ [النساء: 1].
﴿وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألاّ تعدلوا﴾ [النساء: 3].
ثم بعد مضي أكثر من ثلاثين عاما على كتابتي لهذا البحث، وجمع مادته العلمية؛ رأيت أن أعيد صياغته، وربّما زدت فيه أو حذفت منه، ثم أقدمه للقارئ، عسى أن يجد فيه النفع والفائدة.
والله ولي التوفيق.
الفصل الأول
تعريف الخطبة
ذكر أهل اللغة للخِطْبة تعاريف كثيرة، نختار منها الأقرب إلى موضوعنا:
فقال صاحب «مختار الصحاح»( ):
«خَطَب، الخطب: سبب الأمر، تقول: ما خَطْبُك؟ قلت: قال الأزهري: أي ما أمرُك، وتقول: هذا خَطْب جليل، وخَطْب يسير، وجمعه: خُطُوب»( ). اهـ
وخاطَبَه بالكلام مخاطبة وخِطاباً، وخطب على المنبر خُطْبَة ـ بضم الخاء ـ وخَطَابة.
وخَطب المرأة في النكاح خِطْبة ـ بكسر الخاء ـ يَخْطُب ـ بضم الطاء فيهما، واختطب أيضاً فيهما.
وخَطب من باب ظَرف: صار خطيباً.
وأكثر ما تَرِد هذه الكلمة في بحثي هذا بالكسر؛ لأنّها المقصود، وجميع فصوله تدور على الخِطْبَة ـ بكسر الخاء.
تعريف الخِطْبة في الاصطلاح:
ذكر أصحاب كتب الفقه الخِطْبة فقالوا:
الخِطْبة ـ بكسر الخاء ـ طلب الزّواج من امرأة معينة، وعَرْض هذه الرّغبة عليها، أو على أهلها، وقد يعرض هذا من يريد الزواج بنفسه، وقد يوَكِّل غيره، فإذا ما أُجِيب الخاطب إلى طلبه، فقد تمت الخِطْبة بينهما.
وقال بعضهم: هي أن يطلب الرّجل من المرأة أو وليها أن يتزوّجها، فإذا وافق وليّها تمت الخِطْبة، وكانت بمثابة اتِّفاق مبدئي على أنّها تكون له، ويكون لها( ).
وقال آخرون: الخِطْبة ـ بكسر الخاء ـ: ما يورد من الخُطب في استدعاء النِّكاح، والإجابة إليه، وهو في غير ذلك: الخُطْبة ـ بضم الخاء ـ.
قال أبو إسحاق الزجاج: «الخِطبة ـ بكسر الخاء ـ: ما يجري من المراجعة والمحاولة للنكاح؛ لأنه أمر غير مقدور، ولا يتعيَّن له أول ولا آخر؛ لأن هذا اللّفظ قد يستعمل في كل ما يستدعى به النِّكاح من القول، وإن لم يكن مؤلَّفاً على نظم الخطب، فيقال: فلان يخطب فلانة، إذا استدعى نكاحها، وإن لم يوجد منه لفظ يسمى خُطْبة»
ويدلّ على ما ذهب إليه أبو إسحاق الزّجاج: قوله :
(لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه). متفق عليه.
ولم يعن بالخطبة: الكلام المؤلف الذي يؤتى به عند انعقاد النِّكاح، وإنما أراد ما يتراجع به القول عند محاولة ذلك ومراوضته( ).
وفي «المغني والشرح الكبير»: الخِطْبة ـ بكسر الخاء ـ خطبة الرجل المرأة لينكحها، وبالضم: هي حمد الله والتشهد( ).
معنى الخطبة ـ بضم الخاء ـ اصطلاحاً:
الخُطْبة ـ بضم الخاء ـ ما يقال في الجمعة والعيد والحج، وما يقال بين يدي العقد، ومن ذلك ما رُوي عن النبي وهي:
(الحمد لله نحمده ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً﴾ [النساء: 1].
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ [آل عمران: 102].
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما﴾) [الأحزاب: 70-71].
آراء الفقهاء في الخُطْبة:
وهذه الخطبة مندوبة عند أبي حنيفة ومالك، ومسنونة عند الشافعي وأحمد.
والمالكية قالوا: الخطبة مندوبة من أربعة:
الأول: الزوج، أو وكيله عند التماس الزواج.
الثاني: ولي أمر الزوجة، أو وكيلها، فيندب له أن يرد على الزوج في هذا المقام بخطبة.
الثالث: ولي المرأة، أو وكيلها عند العقد.
الرابع: الزوج، أو وكيله عند القبول.
والشافعية قالوا: للخاطب أن يخطب خطبتين:
إحداهما: عند طلب المخطوبة.
والأخرى: قبل العقد.
كما يُسَن للولي أن يخطب عند إجابته( ).
وهذا ليس بواجب عند أحد من أهل العلم إلا داود الظاهري، فإنه أوجبها [أي: الخُطبة ـ بضم الخاء]؛ لأنه اعتبرها شرطاً في النِّكاح.
ومِمَّا يدلّ على أنّ هذه الخُطْبة ليست واجبة: أنّ رجلاً قال للنبي : يا رسول الله، زَوِّجْنيها، فقال:
(زَوَّجْتُكها بما معك من القرآن).
ولم يَذْكُر خُطْبة.
وخُطب إلى عمر مولاة له، فلم يزد على أن قال: «أنكحناك على ما أمر الله، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان».
وقال جعفر بن محمد عن أبيه: «إن كان الحُسَيْن لَيُزَوِّج بنات الحسن، وهو يتعرَّق العرق» رواهما ابن المنذر.
وروى أبو داود بإسناده عن رجل من بني سُليم، قال: خطبت إلى رسول الله أُمَامة بنت عبد المطلب فأنكحني من غير أن يتشهَّد.
ولأنه عقد معاوضة، فلم تَجِب فيه الخطبة كالبيع.
وما استدلُّوا به يدُلّ على عدم الكمال بدون الخطبة.
ولعلّ ما استدلوا به قول الرسول :
(كلُّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع).
قال الألباني في «إرواء الغليل» (1/30): ضعيف.
وقوله : (كلُّ خطبة ليس فيها شهادة، فهي كاليد الجذْماء)( ).
أخرجه أبو داود في سننه رقم (4841)، والترمذي في الجامع برقم (1106)، وقال: «حسن غريب» اهـ.
وصححه العلامة الألباني في «صحيح أبي داود».
وقال الحافظ في «الفتح» (1/10) عن هذين الحديثين: «في كلّ منهما مقال».
الفصل الثاني: في صفة المرأة المخطوبة
المبحث الأول: في صفة الخاطب:
بعد أن عرفنا الخطبة ـ بالضم وبالكسر ـ نأتي إلى أمر من الأُمُور المهمة، والتي يجب على ولي المرأة، وكذلك الرّجل أن يهتمّا به جداًّ؛ لأنها صُحْبة تدوم غالباً حتى الممات.
فلذلك يجب على الولي أن يختار لكريمته، أو ابنته، أو من ولاّه الله أمرها، فلا يزَوِّجها إلا لِمَن له دين وخُلُق وشرف، وحسن سمت، فإن عاشرها فبمعروف، وإن سرّحها سرَّحها بإحسان( ).
قال الإمام الغزالي في «الإِحْياء»( ):
والاحتياط في حقِّها أهم؛ لأنها رقيقه بالنِّكاح، لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال, ومهما زوّج ابنته أو غيرها مِمَّن ولاّه الله أمرها ظالماً، أو فاسقاً، أو مبتدعاً، أو شارب خمر، فقد جنى على دينه، وتعرَّض لسَخَط الله؛ لِما قطع من الرّحم وسوء الاختيار.
قال رجل للحسن بن علي: إن لي بنتاً، فَمَن ترى أن أُزَوِّجَها له؟ قال: «زَوِّجْها لمن يتقي الله، فإن أحَبَّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلِمْها».
وقالت عائشة رضي الله عنها: «النِّكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته».
وقال :
(مَن زَوَّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها)
رواه ابن حبان في «الضعفاء» من حديث أنس، ورواه الثِّقات من قول الشَّعْبي بإسناد صحيح.
قال ابن تيمية: «ومن كان مُصِراًّ على الفسوق لا ينبغي أن يزوج»( ).
المبحث الثاني: صفة المرأة المخطوبة
قال العلماء: ينبغي أن يكون في المرأة المخطوبة صفات، نوردها إجمالاً، ثم نفصِّل ذلك بالأدلة من الأحاديث المأثورة عن الحبيب ، فمن هذه الصِّفات:
• أن تكون ولوداً.
• أن تكون أصغر منه سناًّ.
• أن تكون أقل منه جاهاً.
• أن تكون أقل منه مالاً.
• أن تكون أقل منه حَسَباً.
• أن تكون في بيئة كريمة.
إلى غير ذلك من الصِّفات التي يستحسن وجودها في المخطوبة، وإليك أخي المسلم تفصيل ذلك:
عن أنس بن مالك أن النبي كان يأمر بالباءة، وينهى عن التَّبَتُّل نهياً شديداً، ويقول:
(تزوَّجوا الودود الولود، فإني مكاثرٌ بكم الأُمَم يوم القيامة).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال:
(أنكحوا أمهات الأولاد، فإني أباهي بكم الأُمَم يوم القيامة) رواهما أحمد.
وعن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تَلِد، أفأتزوجها؟ قال: (لا)، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال:
(تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثرٌ بكم) رواه أبو داود والنسائي.
معاني المفردات التي وردت في الأحاديث:
التبَتُّل: هو في الأصل: الانقطاع، والمراد به هنا: الانقطاع عن النِّكاح، وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة.
والولُود: كثيرة الولَد.
والودود: لما هي عليه من حُسْن الخُلُق، والتَّودُّد إلى الزوج، وهو فَعُول بمعنى: مَفْعُول.
والمكاثرة يوم القيامة: إنما تكون بكثرة أمَّته .
وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على مشروعية النِّكاح، ومشروعية أن تكون المنكوحة ولوداً. اهـ.
وعن جابر أن النبي قال له: (يا جابر، تزوّجت بكراً أم ثيباً؟) قال: ثيِّباً، فقال: (هلاّ تزوجت بكراً، تلاعبها، وتلاعبك؟) رواه الجماعة.
وهناك عبارات أخرى جاءت في لفظ الحديث، مثل: «تضاحكها، وتضاحكك»، و«تداعبها، وتداعبك».
وعن أبي هريرة عن النبي قال:
(تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولِحَسَبها، ولِجَمالها، ولِدينها؛ فاظفر بذات الدين تَرِبَت يداك) رواه مسلم، والترمذي وصححه.
فيه دليل على استحباب نكاح الأبكار، إلا لمقتضٍ لنكاح الثيب، كما وقع لجابر ، فإنه قال للنبي ـ لَمَّا قال له ذلك ـ: «هَلَك أبي وترك سبع نسوة بنات، فتزوجت ثيباً كراهة أن أجيئهن بمثلهن» فقال:
(بارك الله لك) هكذا في البخاري في النفقات.
وفي رواية له ذكرها في المغازي من «صحيحه»: «كُنّ لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن، وتمشطهن» قال: (أصبت).
معاني المفردات التي وردت في الأحاديث أعلاه:
البكر: هي التي لم توطأ. والثيب: هي التي وطئت.
قوله: «تلاعبها، وتلاعبك» رواية للبخاري في النفقات. و«تضاحكها وتضاحكك» كذلك.
وفي رواية لأبي عبيد: «تداعبها وتداعبك» بالدال المهملة، مكان اللام.
قوله: «تنكح المرأة لأربع» أي: لأجل أربع.
قوله: «لِحَسَبها» بفتح الحاء، والسين المهملة، بعدها باء مُوَحّدة، أي: شرفها، والحَسَب في الأصل: الشرف بالآباء، وبالأقارب، مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عددوا مناقبهم، ومآثر آبائهم وقومهم، وحسبوها، فيحكم لمن زاد عدده على غيره.
وقيل: المراد بالحسب هاهنا: الأفعال الحسنة.
وقيل: المال، وهو مردودٌ بذكره فيه.
ويؤخذ من الحديث الشريف: استحباب أن يتزوج نسيبة؛ إلا أن تعارض نسيبة غير دينة، وغير نسيبة دينة، فتقدم ذات الدين، وهكذا في كلّ الصفات.
وأما ما أخرجه أحمد والنسائي وصحّحه ابن حبان والحاكم من حديث بريرة (أنّ أحساب أهل الدّنيا الذي يذهبون إليه: المال)، فقال الحافظ: يحتمل أن يكون المراد أنه حسب من لا حسب له، فيقوم النسب الشريف لصاحبه، مقام المال لمن لا نسب له.
ومنه حديث سمرة رفعه: الحسب: المال، والكرم: التقوى. أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم.
قوله: وجمالها، يؤخذ منه استحباب نكاح الجميلة، ويلحق بالجمال في الذات: الجمال في الصِّفات.
قوله: «فاظفر بذات الدين» فيه دليل على أن اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمع نظره في كل شيء، لا سيما فيما تطول صحبته، كالزوجة، وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه، والبزار، والبيهقي رفعه:
(لا تَزَوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يُرْدِيهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولَأَمة سواداء ذات دين أفضل).
ولهذا قيل: إن معنى الحديث: الإِخْبار منه بما يفعله الناس في العادة؛ فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم: ذات الدين، فاظْفَرْ أيها المسترشد بذات الدين.
قوله: «تَرِبَت يداك» أي: لصقت بالتراب، وهي كناية عن الفقر.
قال الحافظ: «هو خبر بمعنى الدّعاء، لكن لا يُراد حقيقته، قال القرطبي: معنى الحديث: أن هذه الخصال الأربع هي التي يُرْغب في نكاح المرأة لأجلها، فهو خبر عما في الوجود من ذلك، لاَ أنه وقع الأمر به، بل ظاهره إباحة النكاح لقصد كلٍّ من ذلك.
ورد ذلك في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار/ لمحمد بن علي الشوكاني، المتوفى سنة 1255هـ، الجزء (6) ص (111-113).
وأيضاً ورد في صفة المرأة التي يستحب خطبتها أحاديث أُخَر، أذكر أقربها لموضوع البحث:
عن عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، زوج النبي ، وابنة حِبِّه أبي بكر قالت: قلت يا رسول الله، أرأيت لو نـزلت وادياً، وفيه شجرة قد أُكِل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها، فأيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: في التي لم يرتع منها، تعني: أنّ رسول الله لم يتزوّج بكراً غيرها( ).
وقال :
(عليكم بالأبكار، فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير) رواه ابن ماجه في «السنن» وغيره.
ويندب أن تكون المرأة أقل من الرجل سناًّ؛ لئلا تكبر بسرعة، فلا تلد، والغرض الصحيح من الزواج إنما هو التناسل الذي به تكثر الأمة، ويعز جانبها.
ويندب أن تكون أقل منه في الجاه، والعز، والرفعة، والمال؛ لأنّ الرِّجال قوامون على النساء، حافظون لهن، فإذا لم يكن الرجل أعز جاهاً، وأكثر مالاً لا تخضع المرأة له، فلا يستطيع صيانتها، ولهذا قال الرسول :
(من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلاًّ، ومن تزوجها لمالها لم يزد مالها إلا فقراً، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة لم يرد إلا أن يغض بصره، ويحصن فرجه، أو يصل رحمه، بارك الله له فيها، وبارك لها فيه).
ويندب أن تكون المخطوبة أحسن منه خلقاً، وأدباً، وورعاً، وجمالاً، والأحسن أن تكون بكراً كما تقدم ذلك في حديث جابر حينما قال له رسول الله :
(هلا بكراً تلاعبها، وتلاعبك)( ).
ومن المزايا التي ينبغي وجودها في المرأة المخطوبة: أن تكون من بيئة كريمة، معروفة باعتدال المزاج، وهدوء الأعصاب، والبعد عن الانحرافات النفسية؛ فإنها بذلك تكون أجدر رعاية لحق زوجها، وحُنُواًّ على ولدها، فإن رسول الله خطب أم هانئ فاعتذرت إليه بأنها صاحبة أولاد، فقال:
(خير نساء ركبْن الإبل صالح نساء قريش، أحناه( ) على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده).
وفي الحديث:
(إياكم وخضراء الدِّمن) قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: (المرأة الحسناء في المنبت السوء).
والمراد بالمرأة الحسناء في المنبت السوء: المرأة الجميلة المنحدرة من أسرة خبيثة.
قال البيروني في «أسنى المطالب»: «معناه: احذروا المرأة الحسناء، ومنبتها سوء، كالشجرة الخضراء من كثرة الزبل على أصلها».
وقال الدمياطي في «إعانة الطالبين»: «شبه المرأة التي أصلها رديء بالقطعة من الزرع المرتفعة على غيرها التي منبتها موضع روث البهائم».
درجة الحديث:
هذا الخبر ليس له سندٌ ثابت، وهو معدود عند أئمة الحديث من الأحاديث المنكرة، رواه الخطيب في «تلخيص المتشابه» (2/509)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (2/96)، والرامهرمزي في «أمثال الحديث» (1/120) وغيرهم من طريق محمد بن عمر المكي ـ المعروف بالواقدي ـ عن يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله قال:
(إياكم وخضراء الدِّمن) فقيل: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: (المرأة الحسناء في منبت السوء).
وجاء الخبر من مسند عبد الملك بن محمد الأنصاري، ذكره ابن أبي حاتم ـ رحمه الله تعالى ـ في الجرح والتعديل (4/139) فقال: سليمان بن محمد التيمي روى عن عبد الملك بن محمد الأنصاري ، قال: قال النبي :
(إياكم وخضراء الدِّمن) فذكره، ولم يحكم عليه بشيء.
ومحمد بن عمر ـ هو الواقدي ـ وثّقه جماعة، وضعّفه الأكثرون، وهو الصواب فلا يُحْتج بشيء من حديثه، قال عنه الإمام أحمد في رواية: كذاب، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. [الكامل لابن عدي (6/241)].
وقال مسلم: متروك الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وقال أبو زرعة: ترك الناس حديثه.
وقال الدّارقطني: غريب من حديث أبي وجزة، يزيد بن عُبَيْد، عن عطاء، تفرّد به الواقدي، عن يحيى بن سعيد بن دينار عنه. [أطراف الغرائب والأفراد لابن طاهر (5/78)].
ونقل الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (3/145) عن ابن طاهر، وابن الصلاح أنّهما قالا: يُعَدّ في أفراد الواقدي. وقال الدارقطني: لا يصح من وجه.
وقال ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/179): «رواه الواقدي من رواية أبي سعيد الخدري، وهو معدود من أفراده، وقد عُلِم ضعفه.
وذكره العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/387) وعزاه الدارقطني في الأفراد، والرامهرمزي في «الأمثال».
قال الرامهرمزي: «وقد جاء هذا مفسّراً، ومعنى ذلك: أنّ الريح تجمع الدِّمن، وهي البعر ـ في المكان من الأرض، ثم يركبه السّاقي، فينبت ذلك المكان نبتاً ناعماً غضاًّ، فيروق بحسنه وغضارته، فتجيء الإبل إلى الموضع، وقد أعْيَت، فرُبَّما أكلته الإبل، فتمرض، يقول: لا تنكحوا المرأة لجمالها، وهي خبيثة الأصل؛ لأن عرق السوء لا ينجب معه الولد.
وقال الشاعر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا
والخلاصة:
أنه يجوز الزواج من المرأة التي ترجع إلى أصل خبيث، وقد ضعّف أهل العلم الحديث الوارد في النهي عن الزواج من خضراء الدّمن، كما تقدم.
واعلم أنّ معيار الفضل عند الله تعالى هو التقوى والعمل الصالح، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو غيرهما، قال تعالى: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ [الحجرات: 13] .
كما أنّ رسول الله بيّن المعايير التي ينبغي اختيار الزوجة على أساسها، حيث قال:
(تُنْكَح المرأة لأربع: لِمَالِها، ولِحَسَبِها، وجمالِها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبت يداك) متفق عليه.
ولم نقف على دليل من السيرة النبوية يخص هذه المسألة الأخيرة، وفي هذا الحديث الشريف كفاية، فالمرأة التي ترجع إلى أصل سيئ إذا كانت متَّصفة بالاستقامة على دين الإسلام، لا يضرّها ما بأصلها من خُبْث؛ لقوله تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ [الزمر: 7].
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله قال في حجة الوداع:
(ألا لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده) قال الشيخ الألباني يرحمه الله: صحيح.
وروى أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي ، ثم إن رسول الله قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: أي ورب الكعبة، قال: حقا؟ قال: أشهد به، قال: فتبسم رسول الله ضاحكاً من ثبت شبهي في أبي، ومن حلف أبي علي، ثم قال: أَمَا إنّه لا يجني عليك، ولا تجني عليه، وقرأ رسول الله : ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾.
قال الشيخ الألباني: صحيح. والله أعلم.
ويضع الإسلام تحديداً للمرأة الصالحة، وأنّها الجميلة المطيعة البارة الأمينة، فيقول:
(خير النساء من إذا نظرت إليها سرَّتْك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا أقسمت عليها أبرّتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك). رواه النسائي وغيره بسند صحيح( ).
الفصل الثالث
وفيه مبحثان:
الأول: التصريح والتعريض.
الثاني: هل يجوز خطبة المرأة المعتدة من وفاة، أو المطلقة الرجعية، أو المطلقة طلاقاً بائناً، وهل يجوز خِطْبة المرأة المخالعة من زوجها؟
المبحث الأول:
قال العلماء: للخطبة طريقان في عرضها: التصريح، والتعريض.
فأوّلا نتعرّف على التصريح، فقالوا:
التصريح: ما كان بعبارة صريحة، لا تحتمل غير طلب الزواج من المرأة المقصودة، كأن يقول للمرأة التي يريد التزوج بها: إني أريد أن أتزوجك، أو: إني أريد التزوج من فلانة، إذا كان العرض على أهلها.
والتصريح كذلك أن يقول: إذا انقضت عدّتك تزوجتك، أو ما أشبه ذلك.
ومثله أن يقول: تزوجيني إذا حللت، أو أنا أتزوجك إذا حللتي، وما أشبه ذلك.
أما التعريض فهو خلاف التصريح، مأخوذ من العَرْض، وهو الجانب، وهو ما كان بعبارة لا تدلّ على الخطبة، ولكن يفهم من عرضها وجانبها قصد الخطبة بالقرائن والأحوال، كأن يقول الرجل لمن يريدها زوجة: إنك مهذبة، أو وددت لو يسر الله لي زوجة صالحة، أو إن الله لسائق إليك خيراً، وما إلى ذلك من العبارات التي تفهم منها الخطبة تعريضاً وتلميحاً، مثل: رُبّ راغب فيك، أو أنت جميلة، أو أنت مرغوب فيك، أو رُبّ متطلِّع إليك، وإنك لكما تحبين، وإني عليك لحريص ... وغيرها كثير.
المبحث الثاني: في خطبة المعتدة والمطلقة عن رجعة، والمطلقة طلاقاً بائناً، والمخالعة:
قال صاحب المجموع( ):
«ويجوز التعريض بخطبة المعتدة عن الوفاة والطلاق الثلاث؛ لقوله تعالى: ﴿ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم﴾ [البقرة: 235].
ولِما روت فاطمة بنت قيس أن أبا جعفر بن عمرو طلّقها ثلاثاً، فأرسل إليها ( لا تسبقيني بنفسك) فزوجها بأسامة .
ويحرم التصريح بالخطبة؛ لأنّه لما أباح التعريض دلّ على أنّ التصريح محرم، ولأنّ التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح فتخبر بانقضاء العدة.
والتعريض يحتمل غير النكاح، فلا يدعوها إلى الإخبار بانقضاء العدة.
وإن خالعها( ) زوجها فاعتدت لم يحرم على الزوج التصريح بخطبتها؛ لأنه يجوز له نكاحها، فهو معها كالأجنبي مع الأجنبية في غير العدة.
ويحرم على غيره التصريح بخطبتها؛ لأنها محرمة عليه.
وهل يحرم التعريض؟ فيه قولان للعلماء:
الأول: يحرم؛ لأن الزوج يملك أن يستبيحها في العدة، فلم يجز لغيره التعريض بخطبتها كالرّجعية.
الثاني: لا يحرم؛ لأنّها معتدة بائن، فلم يحرم التعريض بخطبتها كالمطلقة ثلاثاً، والمتوفى عنها زوجها، والمرأة في الجواب كالرجل في الخطبة فيما يحل ويحرم؛ لأن الخطبة للعقد، فلا يجوز أن يختلفا في تحليله وتحريمه.
قال مجاهد: مات رجل وكانت امرأته تتبع الجنائز، فقال لها رجل: لا تسبقينا بنفسك، فقالت: قد سبقك غيرك.
ويكره التعريض بالجماع؛ لقوله تعالى: ﴿ولكن لا تواعدوهن سراًّ﴾ [البقرة: 235] وفسّر الشافعي ـ رحمه الله ـ السر بالجماع، فسماه سراًّ؛ لأنه يفعل سراًّ، وأنشد قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
فمعنى السر في بيت الشعر: الجماع، فهذا هو الذي يقصده الشاعر، فلذلك استشهد به الشافعي ـ رحمه الله ـ.
وخلاصة القول: أن الخاطب يحرم عليه التصريح لذوات العدد (بكسر العين) بالزواج، ولا بأس بالتعريض. والله أعلم بالصواب.
الفصل الرابع:
في شروط جواز الخطبة
لا تباح خطبة امرأة إلا إذا توافر فيها شرطان:
الأول: أن تكون خالية من الموانع الشرعية التي تمنع زواجه منها في الحال.
الثاني: أن لا يسبقه غيره إليها بخطبة شرعية.
فإذا كان ثمت موانع شرعية كأن تكون محرمة عليه بسبب من أساب التحريم المؤبد، كالأخت والعمة والخالة والأخت من الرضاعة، أو بسبب من أسباب التحريم المؤقت، مثل: أخت الزوجة ما دامت الزوجية قائمة بينهما، والخامسة لمن كان تحته أربع نسوة، وزوجة الغير أيضاً، فإن كل هؤلاء يحرم على المسلم التزوج بهن أثناء الخطبة، فتكون الخطبة محرمة كذلك.
هذا فضلا عما في خطبة ذات الزوج من الاعتدء على حق زوجها، وإفساد الحياة الزوجية بينهما، ناهيك عما ينشأ من وراء ذلك من العداوة والبغضاء أساس الشرور.
وكذلك يحرم خطبة المشغولة بأثر زواج الغير، وهي المعتدة.
حكم خطبة معتدة الغير:
فتحرم خطبة معتدة الغير، سواء أكانت عدتها عدة وفاة أم عدة طلاق، وسواء أكان الطلاق رجعياًّ أم بائناً.
فإن كانت معتدة من طلاق رجعي حرُمت خطبتها؛ لأنها لم تخرج عن عصمة الزوج، وله مراجعتها في أي وقت شاء، وقبل انتهاء العدة.
وإن كانت معتدة من طلاق بائن بينونة صغرى، حرُمت خطبتها بطريق التصريح، إذْ حق الزوج لا يزال متعلِّقاً بها، وله حق إعادتها بعقد جديد ، ففي تَقَدُّم رجل آخر لخطبتها اعتداء عليه، واختلف العلماء في التعريض بخطبتها، والصحيح جوازه.
وإن كانت معتدة من وفاة، فإنه يجوز التعريض لخطبتها أثناء العدة دون التصريح؛ لأن صلة الزوجية قد انقطعت بالموت، أي: موت الزوج، فلم يبق للزوج حق يتعلق بزوجته التي مات عنها، إلا ما كان مما يتعلق بمعنى الآية ﴿ولا تنسوا الفضل بينكم﴾ [البقرة: 235].
وإنما حرم خطبتها بطريق التصريح؛ رعايةً لحزن الزوجة وإحدادها، هذا من جانب، ومن جانب آخر: محافظة على شعور أهله من والد أو والدة، وأهل وعشيرة، وورثته كذلك.
قال الله تعالى: ﴿ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سراًّ إلا أن تقولوا قولاً معروفاً، ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، واعلموا أن الله غفور حليم﴾ [البقرة: 235]. وإليكم تفسير الآية بإختصار
ولا إثم عليكم ـ أيها الرِّجال ـ فيما تُلَمِّحون به من طلب الزواج بالنساء المتوفَّى عنهن أزواجهن، أوالمطلقات طلاقاً بائناً في أثناء عدتهن، ولا ذنب عليكم أيضاً فيما أضمرتموه في أنفسكم من نية الزواج بهن بعد انتهاء عدتهن. علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدات، ولن تصبروا على السكوت عنهن، لضعفكم؛ لذلك أباح لكم أن تذكروهن تلميحاً إو إضماراً في النفس، واحذروا أن تواعدوهن على النّكاح سراًّ بالزنى، أو الاتفاق على الزواج في أثناء العدة، إلا أن تقولوا قولاً يُفْهم منه أن مثلها يُرْغَبُ فيها الأزواج، ولا تعزموا على عقد النكاح في زمان العدة حتى تنقضي مدتها. واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فخافوه، واعلموا أن الله غفور لمن تاب من ذنوبه، حليم على عباده لا يعجل عليهم بالعقوبة.
والهديّة للمعتدة جائزة ، وهي من التعريض، وجائز أن يمدح نفسه، ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين.
قالت سُكَيْنَة بنت حنظلة: استأذن (علي بن محمد) عَلَيَّ، ولم تنقض عدّتي من مهلك زوجي، فقال: قد عرفتي قرابتي من رسول الله ، وقرابتي من (علي)، وموضعي في العرب. قلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، وتخطبني في عدتي؟ قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله ومن (علي).
وقد دخل رسول الله على أمّ سلمة، وهي متأيّمة من أبي سلمة فقال:
(لقد علمت أني رسول الله وخيرته، وموضعي في قومي) وكانت تلك خطبة. رواه الدارقطني.
وخلاصة الآراء: أن التصريح حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح للبائن، وللمعتدة من وفاة، وحرام في المعتدة من طلاق رجعي.
وإذا صرح بالخطبة في العدة، ولكن لم يعقد إلا بعد انقضاء العدة، فقد اختلف العلماء في ذلك:
قال مالك: يفارقها، دخل بها أو لم يدخل بها.
وقال الشافعي: صح العقد، وإن ارتكب النهي الصريح المذكور؛ لاختلاف الجهة.
واتفقوا على أنّه يفرق بينهما لو وقع العقد في العدة ودخل بها.
وهل تحل له بعد أم لا؟
قال مالك والليث والأوزاعي: لا يحل له زواجها بعدُ.
وقال جمهور العلماء: بل يجوز له، إذا انقضت العدة أن يتزوجها، إذا شاء ذلك( ).
الخطبة على الخطبة، وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل القادم ـ إن شاء الله
الفصل الخامس
في حكم الخطبة على خطبة الغير
لقد حفظ الإسلام حق المسلم على المسلم، ومنه هذا الأدب الإسلامي الرفيع، وهو عدم الخطبة على خطبة الغير حتى يدع؛ لأنّ فعل ذلك فيه إيغار للصدور، وقد يبعث على البغض والكره للآخر.
روى الشافعي ـ رحمه الله ـ من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال:
(لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه). متفق عليه.
وروى أيضاً من طريق ابن عمر أن رسول الله نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك. متفق عليه
فكان الظاهر من هذين الحديثين أنّ من خَطَب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يأذن الخاطب، أو يدع الخطبة، وكانت محتملة لأن يكون نهي النبي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه في حال دون حال، فوجدنا سنة النبي تدلّ على أنه إنما نهى في حال دون حال.
وروى أيضاً من طريق مالك عن سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أنّ زوجها طلّقها، فبتّها، فأمرها النبي أن تعتدّ في بيت أم مكتوم، وقال: (فإذا حللت فآذنيني)، قالت: فلما حللت أخبرته أن أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال رسول الله :
(أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأمّا معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة) فكرهت، فقال: (أنكحي أسامة) فنكحته، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به.
قال الشافعي: فكان بيِّناً أنّ الحال التي خطب فيها رسول الله فاطمة على أسامة غير الحال التي نهى عن الخطبة فيها، ولم يكن للمخطوبة حالان مختلفي الحكم إلا بأن تأذن المخطوبة بإنكاح رجل بعينه، فيكون للولي أن يزوجها، وليس لأحد أن يخطبها في هذه الحال حتى يأذن الخاطب أو يترك خطبتها، وهذا بيِّن.
وقد أعلمت فاطمة رسول الله أن أبا جهم ومعاوية خطباها، ولا شكّ ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ خطبة أحدهما بعد خطبة الآخر، فلم ينههما، ولا واحداً منهما، ولم نعلمه أنها أذنت في واحد منهما، فخطبها على أسامة، ولم يكن ليخطبها في الحال التي نهى فيها عن الخطبة، ولم أعلمه نهى معاوية ولا أبا جهم عمّا صنعا، والأغلب أنّ أحدهما خطبها بعد الآخر، فإذا أذنت المخطوبة في إنكاح رجل بعينه لم يجز خطبتها في تلك الحال، وإذن الثيب: الكلام، والبكر: الصمت، وإن أذنت بكلام، فهو إذن أكثر من الصمت.
قال: وإذا قالت المرأة لوليِّها: زوجني مَن رأيت، فلا بأس أن تخطب في هذه الحال؛ لأنها لم تأذن في أحد بعينه.
فإذا أمرت في رجل، فأذنت فيه، لم يجز أن تخطب، وإذا وعد الولي رجلاً أن يزوجه بعد رضا المرأة لم يجز أن تخطب في هذه الحال، فإن وعده ولم ترض المرأة فلا بأس أن تخطب إذا كانت المرأة ممن لا يجوز أن تزوج إلا بأمرها.
وأمر البكر إلى أبيها، والأمة إلى سيدها.
فإذا وعد أبو البكر، أو سيد الأمة رجلاً أن يزوجه، فلا يجوز لأحد أن يخطبها.
ومن قلت لا يجوز له أن يخطبها فإنما أقوله إذا علم أنها خطبت وأذنت.
وإذا خطب الرجل في الحال التي نهى أن يخطب فيها عالماً، فهي معصية، يستغفر الله تعالى منها، وإن تزوجت بتلك الخطبة فالنكاح ثابت؛ لأن النكاح حادث بعد الخطبة، وهو مما وصفت من أن الفساد إنما يكون بالعقد لا بشيء تقدمه وإن كان سببا له لأن الأسباب غير الحوادث بعدها( ).
لا يحل لمسلم أن يخطب على خطبة مسلم سواء ركنا وتقاربا أو لم يكن شئ من ذلك إلا أن يكون أفضل لها في دينه وحسن صحبته فله حينئذ أن يخطب على خطبة غيره ممن هو دونه في الدين وجميل الصحبة أو إلا أن يأذن له الخاطب الاول في أن يخطبها فيجوز له أن يخطبها حينئذ أو إلا أن يدفع الخاطب الاول الخطبة فيكون لغيره أن يخطبها حينئذ أو إلا أن ترده المخطوبة فلغيره أن يخطبها حينئذ وإلا فلا.
قال أبو محمد( ):
«وأما إذا ردته المخطوبة فقد وجب عليه قطع الخطبة لأن في تماديه الإضرار بها والظلم لها في منعه بذلك غيره من خطبتها فكل خطبة تكون معصية فلا حكم لها وأما إذا كان فوقه في دينه وحسن صحبته فلحديث فاطمة بنت قيس المشهور:
(أن رسول الله قال لها: من خطبك؟) قالت: معاوية ورجل من قريش آخر، فقال لها رسول الله :
(أما معاوية فإنه غلام من غلمان قريش لا شئ له، وأما الآخر فإنه صاحب شر لاخير فيه، أنكحي أسامة. قالت: فكرهته فقال لها ذلك ثلاث مرات فنحكته)»( ).
قال ابن القاسم: «إنما معنى النهي إذا خطب رجل صالح على خطبة رجل صالح، وأما إن كان الاول غير صالح والثاني صالح جاز»( ).
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ:
إذا كان الخاطب الأول ذميا لم تحرم الخطبة على خطبته نص على ذلك، فقال: لا يخطب على خطبة أخيه ولا يساوم على سوم أخيه إنما هو للمسلمين ولو خطب على خطبة يهودي أو نصراني أو استام على سومهم لم يكن داخلا في ذلك لأنهم ليسوا بإخوة للمسلمين.
وقد قال ابن عبد البر لا يجوز أيضا لأن هذا خرج مخرج الغالب لا لتخصيص المسلم به»( ).
قال الخطابى وغيره: ظاهره اختصاص التحريم بما اذا كان الخاطب مسلما، فان كان كافرا فلا تحريم وبه قال الاوزاعى.
وقال الجمهور: تحرم الخطبة على خطبة الكافر أيضا( ).
مسألة: أثر الخطبة على الخطبة في العقد:
لو خطب على خطبته وتزوج والحالة هذه عصى وصح النكاح ولم يفسخ.
وقال داود: يفسخ النكاح.
وعن مالك روايتان كالمذهبين.
وقال جماعة من أصحاب مالك: يفسخ قبل الدخول لا بعده( ).
الفصل السادس:
أحكام رؤية المخطوبة والاختلاط بها
لرؤية المخطوبة قبل العقد أحكام نوردها فيما يلي، كما نورد اختلاف الفقهاء وأدلتهم، وإليك بيان ذلك:
أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي ومالك وأحمد وآخرون: يباح النظر إلى المرأة التي يريد نكاحها.
وقال عياض: وقال الأوزاعي: ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها.
وقال الشافعي وأحمد: وسواء بإذنها أو بغير إذنها إذا كانت مستترة.
وحكى بعضهم تأويلا على قول مالك إنه لا ينظر إليها إلا بإذنها؛ لأنه حق لها، ولا يجوز عند هؤلاء المذكورين أن ينظر إلى عورتها، ولا وهي حاسرة.
وعن داود ينظر إلى جميعها حتى قال ابن حزم يجوز النظر إلى فرجها.
وقال النووي رداًّ على قول داود بالنظر إلى جميع البدن: هذا خطأ ظاهر، منابذ لأصول السنة والإجماع.
وقال العلماء: لا ينظر إليها نظر تلذذ وشهوة ولا لريبة.
وقال أحمد: ينظر إلى الوجه على غير طريق لذة، وله أن يردد النظر إليها متأملا محاسنها، وإذا لم يمكنه النظر استحب أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره؛ لما روى البيهقي من حديث ثابت عن أنس أن النبي أراد أن يتزوج امرأة فبعث بامرأة لتنظر إليها فقال:
(شمي عوارضها وانظري إلى عرقوبيها)( ). الحديث.
وهذا قول من لا يرى النظر إلى المخطوبة.
وقالت طائفة منهم يونس بن عبيد وإسماعيل بن علية وقوم من أهل الحديث: لا يجوز النظر إلى الأجنبية مطلقا إلا لزوجها أو ذي رحم محرم منها، واحتجوا في ذلك بحديث علي أن رسول الله قال:
(يا علي إن لك في الجنة كنـزا، وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى، وليست لك الأخرى). رواه الطحاوي والبزار.
ومعنى لا تتبع النظرة النظرة: أي لا تجعل نظرتك إلى الأجنبية تابعة لنظرتك الأولى التي تقع بغتة، وليست لك النظرة الآخرة لأنها تكون عن قصد واختيار فتأثم بها أو تعاقب.
واحتجوا أيضاً بما رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله قال سألت رسول الله عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
قالوا فلما كانت النظرة الثانية حراما لأنها عن اختيار خولف بين حكمها وحكم ما قبلها إذْ كانت بغير اختيار ـ دل ذلك على أنه ليس لأحد أن ينظر إلى وجه امرأة، إلا أن يكون بينها وبينه من النكاح أو الحرمة.
واحتجت الطائفة الأولى ـ وهي التي ترى جواز النظر إلى المخطوبة بما يلي:
حديث محمد بن مسلمة سمعت رسول الله يقول:
(إذا ألقى في قلب امرىء خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها). رواه الطحاوي وابن ماجه والبيهقي.
وبحديث أبي حميد الساعدي وقد كان رأى النبي قال: قال رسول الله :
(إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة وإن كانت لا تعلم). رواه الطحاوي وأحمد والبزار.
وبحديث جابر قال قال رسول الله :
(إذا خطب أحدكم المرأة فقدر على أن يرى منها ما يعجبه فليفعل). رواه الطحاوي وأبو داود.
وبحديث أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي : (انظر إليها فإن في أعين نساء الأنصار شيئا) ـ يعني الصغر ـ رواه الطحاوي، وأخرجه مسلم وليس في روايته يعني الصغر.
وبحديث المغيرة بن شعبة أنه أراد أن يتزوج امرأة فقال له النبي :
(انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) أخرجه الطحاوي والترمذي وقال: «حديث حسن».
وقال: «معنى قوله: (أن يؤدم بينكما) أي: أحرى أن تدوم المودة بينكما».
وأجابوا عن حديث علي عنه بأن النظر فيه لغير الخطبة فذلك حرام، وأما إذا كان للخطبة فلا يمنع منه؛ لأنه للحاجة، ألا يرى كيف جوز به في الإشهاد عليها ولها، فكذلك النظر للخطبة( ).
ومِمّا يستدل به على جواز النظر إلى المخطوبة قبل التزويج: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله :
(أُرِيتُك في المنام يجيء بك الملَك في سَرَقَة من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب، فإذا أنت هي، فقلت: إن يكُ هذا من عند الله يُمْضه).
قال صاحب الفتح:
«في الاحتجاج بهذا الحديث للترجمة نظر ، لأن عائشة كانت إذ ذاك في سن الطفولة فلا عورة فيها البتة ، ولكن يستأنس به في الجملة في أن النظر إلى المرأة قبل العقد فيه مصلحة ترجع إلى العقد»( ).
قال النووي:
«ومذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور: أنه لا يشترط في جواز هذا النظر رضاها، بل له ذلك في غفلتها، ومِن غير تَقَدُّم إعلام، لكن قال مالك: أكره نظره في غفلتها؛ مخافة وقوع نظره على عورة.
وعن مالك رواية ضعيفة: أنه لا ينظر اليها إلا بإذنها. وهذا ضعيف؛ لأن النبي قد أذن في ذلك مطلقا، ولم يشترط استئذانها. ولأنها تستحي غالبا من الإذن، ولأن في ذلك تغريراً فربما رآها فلم تعجبه فيتركها فتنكسر وتتأذى؛ ولهذا قال أصحابنا: يستحب أن يكون نظره إليها قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء، بخلاف ما إذا تركها بعد الخِطْبة. والله أعلم»( ).
ومِمَّا يُسْتَأْنس به على جواز النظر إلى المخطوبة أيضاً:
حديث سهل بن سعد في البخاري: أن امرأة جاءت رسول الله فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله فَصَعَّد النظر إليها وصَوَّبَه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جَلَسَتْ. فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: (هل عندك من شيء؟) فقال: لا، والله يا رسول الله، قال: (اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا) فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئا قال: (انظر ولو خاتما من حديد) فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري، قال سهل: ما له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله : (ما تصنع بإزارك، إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك شيء) فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام، فرآه رسول الله مُوَلِّياً فأمر به فدُعِي، فلما جاء قال: (ماذا معك من القرآن؟) قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا، عَدَّها، قال: (أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟) قال: نعم قال: (اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن). رواه البخاري.
والشاهد فيه للباب قوله: «فصَعَّد فيها النظر وصوَّبه)
ومما يستدل به كذلك حديث أبي هريرة ، أنّ رجلاً خطب امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله : (أَنَظَرت إليها؟) قال: لا، قال: (فاذهب فانظر إليها، فإنّ في أعْيُن الأنصار شيئاً) قيل: صِغر، وقيل: عمش.
وكذلك حديث المغيرة بن شعبة قال: أتيت النبي فذكرت له امرأة أخطبها، فقال:
(اذهب فانظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما)
قال: فأتيت امرأة من الأنصار، فخطبتها إلى أبويها وأخبرتهما بقول رسول الله فكأنهما كرها ذلك، قال: فسمعتْ ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إنْ كان رسول الله أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فإني أنشدك، كأنها عظمت ذلك عليه، قال: فنظرت إليها، فتزوجتها، فذكر من موافقتها. ابن ماجه في السنن.
وليس الحكم فيما تقدّم مقصوراً على الرجُل، بل هو ثابت للمرأة أيضاً، فلها أن تنظر إلى خاطبها، فإنها يعجبها منه مثل ما يعجبه منها.
قال عمر : لا تزوجوا بناتكم من الرّجل الذميم.
وقال الغزالي في «الإحياء»:
«ولا يستوصف في أخلاقها وجمالها إلا من هو بصير صادق خبير بالظاهر والباطن، ولا يميل إليها، فيفرط في الثناء، ولا يحسدها فيقصر، فالطباع مائلة في مبادئ النكاح، ووصف المنكوحات إلى الإفراط والتفريط، وقَلَّ من يصدق فيه، ويقتصد بل الخداع والإغراء أغلب والاحتياط فيه مهم لمن يخشى على نفسه التشوق إلى غير زوجته».
وبعد أن تعرّفنا على هذا الباب المهم، أقول: بأن الجمهور على أن النظر أصلح لأمر الزوجين، ولدوام العشرة من غير إفراط أو تفريط، وذلك بأن تأتي المخطوبة إلى الخاطب، وهي في لباس الحشمة والستر، وتكون كاشفة عن وجهها، وتقدم له طعاماً، أو شراباً، وينظر إليها، وتنظر إليه، ويكون ذلك بحضور المحرم، مثل: الأب أو الأخ أو العم أو الخال، أو مَن تحرم عليه المرأة بنسب أو سبب، ثم بعد ذلك تخرج. اهـ
حكم الاختلاط قبل العقد:
وأمّا عن الاختلاط فقد درج كثير من الناس على التهاون في هذا الشأن، فأباح لابنته أو قريبته أو من ولاه الله أمرها أن تخالط خطيبها وتخلو معه دون رقابة، وتذهب معه حيث يريد من غير إشراف.
وقد نتج عن ذلك أن تعرضت المرأة لضياع شرفها وفساد عفافها وإهدار كرامتها.
وقد لا يتم الزواج فتكون قد أضافت إلى ذلك فوات الزواج منها.
وعلى النقيض من ذلك: طائفة جامدة لا تسمح للخاطب رؤية البنت المخطوبة، وتأبى إلا أن يرضى بها، ويعقد عليها دون أن يراها أو تراه إلا ليلة العُرْس.
وقد تكون الرؤية مفاجئة لهما غير متوقعة، فيحدث ما لم يكن في الحسبان، وما لم يكن مقدوراً عليه من الشقاق والفرا
الجمعة فبراير 13, 2015 12:42 pm من طرف شافي سيف
» the comandmentes
الجمعة فبراير 13, 2015 12:25 pm من طرف شافي سيف
» الواضح في المنطق الشرعي
السبت ديسمبر 21, 2013 12:36 pm من طرف شافي سيف
» تابع الوضوح في المنطق
السبت ديسمبر 21, 2013 12:28 pm من طرف شافي سيف
» المنطق لطلبه الدراسات
السبت ديسمبر 21, 2013 12:20 pm من طرف شافي سيف
» مدرسه دمنهور المعتصمه
الثلاثاء يناير 08, 2013 11:50 pm من طرف شافي سيف
» الاختبار الشفوي بمعهد فتيات دمنهور
الثلاثاء يناير 08, 2013 11:31 pm من طرف شافي سيف
» لو كنت شمسا لاصطفيتك
الأربعاء أكتوبر 17, 2012 4:32 pm من طرف شافي سيف
» هنيئا لكلب وسدته الكلاب
الأربعاء أكتوبر 17, 2012 4:31 pm من طرف شافي سيف